همسات الغابة الموسيقية في «حديقة الموسيقى» بروما

«سانتا شيشيليا» أول معهد موسيقي في العالم منذ 500 عام

«سانتا شيشيليا»، أول معهد موسيقي في العالم ما يزال مستمرا صرحا شامخا حتى اليوم وستقام في هذا الشهر الذكرى المئوية لانشاء الاوركسترا التابعة لهذا المعهد الموسيقي
TT

لو كنت مشاركا في برنامج «من سيربح المليون» وسألك جورج قرداحي أمام شاشة التلفزيون: من هي «سانتا شيشيليا»، أهي فتاة ايطالية أم قديسة كانت تحب الموسيقى أم مدينة في شمال ايطاليا؟ وانتقيت الاجابة الثانية فلا شك بأنك ستربح المليون بسهولة. اختارت روما في عام 1585 اسم «سانتا شيشيليا» اثناء حكم البابوات، لأول معهد موسيقي في العالم مايزال مستمرا صرحا شامخا حتى اليوم. في تلك الفترة وصلت الشوكولاته لأول مرة الى اوروبا من المكسيك، وتمكن المغرب من هزيمة جيوش البرتغال التي حاولت احتلاله. بدأت الموسيقى الكلاسيكية في الغرب من ذلك المعهد على يد جوفاني باليسترينا، أعظم مؤلفي موسيقى الجوقة بدون مصاحبة آلية، التي تطورت الى قالب موسيقي يسمى الاسلوب البوليفوني البالغ البساطة، لكونه نموذجا حيا لقمة الابداع والملاءمة بين الالحان وإمكانات الأداء البشري الجماعي. وستقام في هذا الشهر الذكرى المئوية لانشاء الاوركسترا التابعة لهذا المعهد الموسيقي، الذي ينافس جامعة هارفارد الاميركية في سمعته، باعتباره ذروة المعاهد الموسيقية العريقة في العالم، وسيكون الاحتفال أحد الاحداث التاريخية في ايطاليا.

ويطلق على سانتا شيشيليا اسم راعية الموسيقيين، ويعتقد أنها كانت نبيلة من روما أيام الامبراطورية الرومانية، وقد قتلها مع اخيها الامبراطور الكسندر سيفيروس بتهمة اعتناق المسيحية سرا عام 230 بعد الميلاد. بنى لها بابا الفاتيكان بعد تكريسها كقديسة كنيسة جميلة عام 820 مازال السياح يتوافدون عليها حتى يومنا هذا في حي تراستيفريه بالعاصمة الايطالية، كما يزورون قبرها في شارع آبيا التاريخي، حيث كانت الجيوش الرومانية تنطلق الى الغزو والفتوحات.

في عام 1840 تحول المعهد الموسيقي بعد انشائه بأكثر من 250 عاما الى اكاديمية للموسيقى لتخريج العازفين والمؤلفين على يد كبار أساتذة الموسيقى، وكان من أعضاء الشرف فيها ملكة بريطانيا فيكتوريا وقيصر المانيا وامبراطورة النمسا ماريا تيريزا والمؤلفون المعروفون آنذاك مثل روسيني وبرليوز ومندلسون. بعد الوحدة الايطالية عام 1870 رسمت خطة لانشاء فرقة موسيقية سمفونية وجوقة غنائية تابعة للاكاديمية تعزف الموسيقى الكلاسيكية في صالة خاصة، وتم تحقيق المشروع عام 1908، اذ كانت ايطاليا حتى ذلك الحين تهتم بالمسرحيات الغنائية أكثر من اهتمامها بالموسيقى الصرفة. أمر موسوليني بهدم صالة الموسيقى الخاصة بالاكاديمية عام 1936 ليبرز النصب التذكاري للامبراطور الروماني اغسطس، وبقيت الاوركسترا تنتقل من مسرح الى آخر حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، حين افتتحت «حديقة الموسيقى» وفيها ثلاث صالات للعزف صممها المهندس المعماري رنزو بيانو لتصبح أكبر مجمع للموسيقى في اوروبا. وانتقلت الاكاديمية والاوركسترا الى هذا المقر الواسع المريح بعد طول انتظار.

وذكر برونو كاليي الرئيس الحالي لأكاديمية سانتا شيشيليا الذي يتابع اللمسات الأخيرة للاحتفالية في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط» بأن الحفلة الموسيقية الجديرة بالذكر في تاريخ الاوركسترا هي تلك التي أحياها قائد الاوركسترا الالماني الفذ كارلوس كلايبر في الثمانينات، وأن المؤلف وقائد الاوركسترا الاميركي الراحل ليونارد برنشتاين كان يتردد بانتظام على روما لقيادة الاوركسترا وله ذكريات كثيرة فيها. واضاف، المعروف أن كاليي باحث مختص بموسيقى روسيني وله كتاب عن مثقف ومترجم فلسطيني عاش في ايطاليا وهو وائل زعيتر، ويعتقد أن اسرائيل اغتالته عام 1972 من دون سبب واضح، كما أن لكاليي أفضالا كبيرة في ترتيب جولات الاوركسترا في العام الماضي الى المانيا واسبانيا والنمسا واليابان، وفي انطلاقة أربعة من كبار قادة الاوركسترا الشهيرين حاليا، وهم فاليري غرغييف الذي يقود اوركسترا ماريينسكي في سان بطرسبرغ واوركسترا لندن السمفونية والروسي يوري تميركانوف والالماني تيلمان في مهرجانات بايروت والايطالي دانييل غاتي وهو الأميز بين جيل الشباب. ويذكر كاليي أن عازفي الأبواق الروس لم يحضروا الى «حديقة الموسيقى» حسب الموعد، مما أغضب غرغييف ودعاه للقلق لاقتراب موعد الحفلة، ثم اكتشف أنهم ذهبوا الى كنيسة سانتا شيشيليا ظنا منهم أن الحفلة ستقام هناك. وأضاف «تلقيت ذات يوم لباسا رسميا من نوع الفراك الذي يستعمله قادة الاوركسترا في المناسبات الخاصة، ولم أعرف من الذي بعث لي بهذه الهدية حتى اكتشفت أنها من ورثة المايسترو برنشتاين الذين أحبوا تكريم سانتا شيشيليا بهذه الطريقة».

وشرحت ماتيلدا باسا مديرة المكتب الصحافي أثناء المقابلة، أن لائحة كبار رجال الفن الذين مروا على سانتا شيشيليا طويلة، ومن بينهم في النصف الأول من القرن العشرين العمالقة المعروفين، مثل غوستاف ماهلر وكلود ديبوسي وكميل سان سانس وسيرغي بروكوفييف وايغور سترافنسكي وبيترو ماسكاني وريتشارد شتراوس وجان سيبيليوس وديمتري شوستاكوفيتش وغيرهم. وكبار قادة الاوركسترا امثال فيلهلم فورفنغلر وكليمنس كراوس وهربرت فون كاريان وبيير مونتو وبرونو والتر وارتورو توسكانيني وليونارد برنشتاين وكارلو ماريا جوليني، الذي بدأ عازفا لآلة الفيولونسيل في الاوركسترا ومشاهير عازفي البيانو العالميين، ومن أبرزهم فيلهلم باكهاوس ووالتر غيزيكنغ والفرد كورتو وارثر روبنشتاين وبنيتدتي انجيلي وسفتالاف ريختر وفيلهلم كمبف وموريتزيو بوليني الذي يتردد الى سانتا شيشيليا سنويا حتى الآن، ومن الأطفال الموهوبين ستيفانو مهنا وهو من أب لبناني وام ايطالية وقد تخرج عازفا لآلة الفيولون (الكمنجة) منذ أشهر وعمره 12 سنة فقط.

وسيفتتح متحف الآلات الموسيقية التاريخية النادرة في 16 فبراير (شباط) الحالي وستقام الاحتفالات طوال اليوم بأكمله في كافة مسارح حديقة الموسيقى ويتوقعون بعض المفاجئات التي لم يعلن عنها، كما ستعزف اوركسترا سانتا شيشيليا بهذه المناسبة نفس برنامج الحفلة التي قدمتها قبل مئة عام ويحتوي على موسيقى بيتهوفن (السمفونية البطولية المهداة الى نابوليون) وموتسارت وروسيني وفاغنر مؤلف اوبرا «سيغفريد» المفضلة لدى هتلر، خاصة قطعة «همسات الغابة» المختارة منها. وسيقود الاوركسترا انطونيو بابانو وهو الشهاب الايطالي الصاعد في النجومية منذ عشر سنوات والمايسترو الحالي للاوركسترا، الذي حاز تسجيله معها لقطع «صنوبر روما ونوافيرها وأعيادها» للموسيقار رسبيغي جائزة كبرى لأفضل التسجيلات في العام الماضي ويعتبرونه الخليفة المرتقب لقائد الاوركسترا الراحل الكبير شارل مونش، الذي قاد الاوركسترا في مهرجانات بعلبك عام 1957 قبل وفاته، وقائد الاوركسترا وعازف البيانو الارجنتيني المعاصر دانييل بارنبوم صديق الفقيد ادوارد سعيد، الذي يزور روما بانتظام. ومن النجوم الساطعة التي تشارك في الاحتفالية عازف البيانو الصيني الشاب لانغ لانغ الذي اكتسح العالم أخيرا بشعبيته أمام الجيل الصاعد منذ أن قرر عندما بلغ الرابعة من عمره أن يكسب قوته من عمل أصابعه التي تعزف على البيانو، اثر اندهاشه بموسيقى ليست المستعملة في أفلام الكارتون. وسيفتح شهية الجمهور في حفلة موسيقية خاصة في حديقة الموسيقى، يعزف فيها ألحان موتسارت وشومان وليست، بالاضافة الى الاغاني الصينية التقليدية وسيفتتح اولمبياد بكين القادم في احتفال ضخم.

وقائد الاوركسترا دانييل غاتي قائد اوركسترا مدينة بولونيا الايطالية والذي انطلق في شهرته العالمية قبل عشر سنوات من سانتا شيشيليا عاد من لندن وقيادة اوركسترا الاوبرا الملكية في غوفنت غاردن ليقدم قبل بدء الاحتفالية اوبرا فاغنر الاخيرة «بارسيفال – رسالة الغفران» لمدة تقارب خمس ساعات متواصلة بمشاركة ما يزيد على مئتي عنصر من الاوركسترا والكورس والمغنين وقد قاد العمل باتقان فائق وباسلوب بطيء يشبه اسلوب المايسترو الالماني الراحل كنابرتسبوتش أبرع المختصين بموسيقى فاغنر المنسابة من دون توقف. وقد منحه رئيس الجمهورية الايطالية وسام أفضل قائد ايطالي للاوركسترا عام 2005 وسيصبح قائدا لاوركسترا فرنسا الوطنية في العام المقبل كما سيفتتح في صيف العام الحالي مهرجان مدينة بايروت الالمانية لعرض اوبرا ريتشارد فاغنر التي أصبحت الموضة المفضلة في عالم الموسيقى الكلاسيكية في السنوات الأخيرة. وقد وصف فاغنر هذه الاوبرا بالمهرجان الموسيقي، بدل تسميتها بالمسرحية الغنائية ومنع عرضها في أي بلد سوى في مسرحه الخاص بمدينة بايروت وبقي الحظر قائما حتى الحرب العالمية الاولى، أما الموسيقار ديبوسي فقد وصفها بأنها «صرح صوتي ضخم بالغ الجمال». وبلغ عدد التسجيلات لها على الاسطوانات القديمة أو المدمجة حاليا عددا قياسيا وصل الى 41 تسجيلا منذ عام 1936 حتى اليوم. وتدور أحداث الاوبرا في القرون الوسطى في أحد الأديرة في اسبانيا، لكنها اوبرا رمزية صوفية تمزج المسيحية بالبوذية وفلسفة شوبنهور ونيتشه ويشار فيها الى أن الدواء الشافي للجروح «البلسم يأتي من بلاد العرب» وأن والد الفارس المنقذ بارسيفال الذي يصمد أمام أسلحة الأغراء الشاملة «جاء من موطن العرب». وعرضت اوبرا بارسيفال لأول مرة عام 1882 في مسرح فاغنر بمدينة بايروت الذي بناه له ملك بافاريا تقديرا لفنه ونالت نجاحا كبيرا من الناحية الفنية والمالية، لكن الانتاج أتعب فاغنر فسافر الى ايطاليا ليرتاح ويستمتع بشمسها وكانت البندقية (فينيسيا) مدينته المفضلة، لكن المنية وافته فيها في أوائل 1883، واقيمت له جنازة بحرية هائلة في القنال الكبير قبل نقله الى المانيا. وتشكلت اوركسترا سانتا شيشيليا قبل مائة عام لتعزف الموسيقى السمفونية الخالصة وكانت أول فرقة موسيقية في ايطاليا تختص بهذا النوع، لأن ايطاليا كانت معروفة بحبها لغناء الاوبرا وها هي الاوركسترا الحديثة تقدم اوبرا فاغنر كحفلة موسيقية من دون ملابس خاصة أو مناظر لتتابع تقاليدها السمفونية وتكرم الموسيقار العبقري الذي أحب ايطاليا وفنونها وكتب الفصل الاخير من بارسيفال في مدينة باليرمو عاصمة جزيرة صقلية بعد 35 سنة من التحضير والتفكير وتأليف الأعمال الاخرى وتوفي عن سبعين عاما بنوبة قلبية قبل أن يسعفه البلسم القادم من بلاد العرب.