1300 عام من الفن الإسلامي في قلب أوروبا

فقرة غنائية تفاجئ محمد بن راشد في متحف الفنون الإسلامية ببرلين

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي في جلسة ثقافية
TT

بعيدا عن البروتوكولات الرسمية، وبرامج الساسة التي لا تنتهي .. اختار الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن يعطي لمسة ثقافية وفنية لزيارته الرسمية لجمهورية ألمانيا، فاختار أحد أعرق المتاحف في أوروبا، وتحديدا متحف الفنون الإسلامية في برلين، ليطعم به برنامجا سياسيا واقتصاديا بحتا، اختصر 1300 عام من الحضارة الإسلامية في قلب أوروبا.

وإذا كان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، قد فاجأ المتابعين بهذا التغيير على زيارته الرسمية، فإن مسؤولي المتحف بدورهم لم يفوتوا هذه المناسبة ليفاجئوا الوفد الرسمي برئاسة الشيخ محمد، بفقرة غنائية عربية خالصة. فما أن أقبل الوفد الإماراتي، حتى بدأت الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة بغناء موشحات عربية، من ضمنها موشح من كلمات الشيخ نفسه. ولعل المفارقة أن إحدى أفراد الفرقة الموسيقية المكونة من ثلاث أشخاص تعد من أكبر المستشرقات الألمانيات وهي من ترجم كتاب ألف ليلة وليلة للغة الألمانية. وما بين مجسمات لأسود وكائنات حية، وبوابة عشتار الشهيرة ورسومات عربية قديمة، تمازج الفن بالثقافة، وتوقفت السياسة لساعات فقط، لتحل الثقافة والفن مكانها، وسط ترحيب ألماني باهتمام عربي بتاريخ عريق، أفرزه اختيار زيارة متحف على استكمال بروتوكولات تعود عليها الساسة ولا يرغب بها كثير من المثقفين والفنانين.

متحف الفنون الاسلامية في العاصمة الألمانية يعود تاريخه لأكثر من قرن من الزمان، ويتميز بالكثير من المعروضات الاسلامية التي اختصرت ثلاثة عشر قرنا من تاريخ الفنون الاسلامية، فمن التحف النادرة إلى السجاد العتيق مرورا باللوحات والمخطوطات وانتهاء بأعمدة كاملة من القصور الإسلامية القديمة جلبت خصيصا لهذا المعرض.

هول المفاجأة لا بد أن يأخذ زوار المعرض من واجهته، والتي هي عبارة عن هدية شخصية من آخر السلاطين العثمانيين، السلطان عبد الحميد، للقيصر الألماني فيلهام الثاني. هذه الهدية شكلت نواة أحد أهم متاحف الفن الإسلامي في أوروبا، وهي واجهة قصر المشتى، عرضها يبلغ 33م بارتفاع 5م فيما يبلغ طول واجهته الجانبية 144م، أما كيف تم نقل هذه الهدية، فعن طريق سكة حديد برلين بغداد التاريخية. وعلى الرغم من صعوبة تصنيف بوابة قصر المشتى داخل مرحلة تاريخية إلا أن المؤرخين يرجحون عودتها إلى العصر الأموي، وتحديدا مرحلة حكم الخليفة الوليد الثاني، منتصف القرن الثامن، وتحمل الواجهة مجسمات لعصافير وحيوانات برية وأخرى أسطورية وطيور جارحة.

الشيخ محمد بن راشد خلال زيارته للمتحف، التقى بكبار المفكرين والأدباء والشعراء والعلماء الألمان، وكان لافتا كثيرا للجانب الألماني عندما قال لهم حاكم دبي إن هذا اللقاء بالنسبة اليه «أهم من الاجتماع مع السياسيين»، وهو الأمر الذي حدا بأحد الأدباء الألمان للرد بالقول، إنهم لا يطلبون من ساستهم كتابة الشعر ونظمه «بل قراءته على الأقل».

وأكد الشيخ محمد بن راشد بانه يولي الثقافة والأدب والشعر وأهلهم اهتماما خاصا ولهم مكانة مميزة في فكره وسلم أولوياته، مبديا استعداده لدعم التوجه المشترك للمفكرين والادباء والشعراء من الجانبين العربي والاوروبي لتفعيل دور الادب والشعر في تقريب المسافات بين الشعوب، وازالة الحواجز الجغرافية فيما بينها، خاصة في ظل سيطرة المعلوماتية على مختلف قطاعات ومناحي الحياة التي باتت تتميز بالسرعة.

الأجواء الثقافية الحميمة التي شهدها المتحف الإسلامي، لم تأت فقط من زيارة رسمية قام بها وفد دولة عربية خليجية، بل باعتبار أن الكثير من المعروضات الفنية تستحق بالفعل أن يتم التركيز عليها والبحث في تاريخها العريق الذي يمتد لأكثر من ألف وثلاثمائة عام.

مدير متحف الفن الإسلامي، البروفسور كلاوس بيتر قال لـ«الشرق الأوسط» إنه يأمل في أن يتمكن هذا المعرض من القيام بجولة عربية في أنحاء متفرقة من المدن العربية، «لكي يشاهد المسلمون والعرب تاريخ فني عريق سجلته هذه المعروضات».

ووفقا لمدير المتحف، الذي يتحدث العربية بطلاقة فإنه يأمل في أن يتمكن من إضافة المزيد من القطع الفنية الإسلامية خلال الفترة المقبلة، مشيرا إلى وجود الكثير من التاريخ الاسلامي الغير معروف «ونعتقد أننا نقوم بالترويج له جيدا في الأوساط الأوروبية».

متحف الفنون الاسلامية تأسس في برلين عام 1904 ويضم بين جنباته قطعا ومخطوطات ورسوما آثارية وفنية نادرة تم إحضارها من إسبانيا والهند ومصر وسورية ومن آسيا الصغرى، لتستقر بالمتحف الذي أغلق ابان الحرب العالمية الثانية العام 1939 وأعيد افتتاحه العام 1956 وبدأ يستقبل زواره العام 1976 عقب استرجاع المسروقات من الاتحاد السوفياتي آنذاك وكانت تضم قطعا وأثريات تاريخية قيمة.

وتمثل المعروضات الحقبة الذهبية للعصر الاسلامي ومن أبرزها: بوابة عشتار ذات النقوش والزخارف الاسلامية الجميلة، وقبة اسلامية من قصر الحمراء في الاندلس، ومحراب قاشان، ومحراب من قونيا في آسيا الصغرى، وغرفة حلب من سورية، وسجاد التنين من الصين، وأبو الهول من مصر ومصحف شريف من قونيا.

واجهة القصر شكلت مع مجموعة من السجاد الفارسي ولوحات تبرز جماليات فن الخط العربي نواة متحف الفن الإسلامي. أما الأعمال الفنية التي يحتويها متحف الفن الإسلامي، فتكشف عن وجود أعمال فنية تقليدية من دول إسلامية مختلفة تعود لفترة من القرن السابع حتى القرن التاسع عشر. استنشاق عبق تاريخ الفن الإسلامي في متحف برلين يبدأ بالتعرف على غرفة استقبال حلبية في بيت التاجر عيسى بن بطرس تعود لأواخر القرن السادس عشر، ورسوم جدرانها الملونة لا ترتبط بالفن المسيحي البيزنطي بقدر ما تعبر عن روح الفن الإسلامي، بالإضافة إلى لوحات الخط وقطع فنية مصغرة وبرونزيات، وسجاد عجمي ورسوم باهرة وقدرة خاصة على مزج الزجاج والقيشاني بالمعادن المختلفة، وهناك وعاء زجاجي مع رسم لفرس مجنح وحروف عربية بالخط الكوفي تعود لمرحلة إسلامية مبكرة من القرن السابع أو الثامن الميلادي، وكذلك طبق من القيشاني المزخرف يعود إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر مصدره إيراني. ولا بد للزائر أن يتوقف كثيرا أمام لوحة زينت بآيات قرآنية كريمة من القرن التاسع الميلادي، ومحراب للصلاة من مسجد الميدان في كيشان يحمل توقيع حسن بن عربشاه يعود لسنة 623 هجرية، وهناك محراب آخر من قونيا التركية يعود للربع الثالث من القرن الثالث عشر، أما الأوعية الزجاجية فهي من مصر وسورية وتعود للقرنين الثالث عشر والرابع عشر.

غني عن القول إن الثقافة امتزجت بالسياسة، بل وتفوقت عليها، وكان المتحف فرصة كبرى لمن أراد أن يعرف التاريخ الاسلامي في الفنون والعمارة والثقافة. صحيح أن المتحف فرصة للكثير من المهتمين لهذه الفنون، إلا أن وجوده في عاصمة أوروبية كبرى، بالتأكيد سيكون له تأثير أكبر على الأوروبيين بكافة مشاربهم، وهو الذي اتضح كثيرا من الطوابير الطويلة من طلاب المدارس والجامعات التي اصطفت متحملة عناء البرد والمطر، فقط من أجل الاطلاع على تاريخ الفن والثقافة الاسلامية.