قطر تنافس الشانزليزيه والسوليدير بأشهر معالمها.. «سوق واقف»

يعود عمره لأكثر من قرن من الزمان

سوق واقف في حلته الجديدة
TT

لم تشأ قطر وهي تستغل طفرتها الاقتصادية في تنمية مناطقها، وفق أحدث التصاميم المعمارية، أن تنسى حاضرا جميلا تشارك الجيل القديم من المواطنين في تأسيسه، فلا أحد من أهل قطر، وربما كثير من زوارها، لا يعرف سوقها الشهير، المعروف بـ«سوق واقف»، إلا أن ذلك السوق العتيق ازداد جمالا بعد تطويره وتحديثه، فأخذ من الماضي عبقه، ومن الحاضر تصاميمه الآخاذة وهندسته الرفيعة. وقد جدد سوق واقف بطريقة حافظت على خصوصيته التي تعود لعقود طويلة، مستفيدة من التصاميم المعمارية الحديثة، التي عادت بسوق شعبي قديم، ولكن بطريقة الألفية الثالثة.

ولأن أهل الخليج يتذكرون جيدا هذا السوق الشعبي، الذي يقع في وسط العاصمة الدوحة، ويعود عمره لأكثر من قرن من الزمان، فهم يعلمون جيدا ماذا يمثل من تراث لا يمكن الاستغناء عنه جيدا، فإن المزيج الذي أحدثه تطوير السوق بين الماضي والحاضر، حول هذا السوق من مجرد تراث يبحث عنه البعض ممن يستهويهم الماضي، إلى توليفة رائعة يجد فيها الكل ما يستمتع به، فتحول السوق العتيق إلى خليط بين سوليدير بيروت وشانزليزيه باريس.

ولأن جميع من يزور قطر يسمع عن سوق واقف.. فإن زيارته بالتأكيد ستكون هي أول ما يفكر به زائر العاصمة القطرية الدوحة، أما ماذا يعني سوق واقف، فهو اسم قديم كانت تتم فيه عمليات الشراء والبيع وقوفاً، فالبائع والمشتري يجريان عملية الشراء والبيع وهما واقفان، وهو ما تعارف عليه الناس بتسمية الناس للسوق بهذا الاسم.

وإذا كان سوق مثل هذا موجودا في أغلب العواصم والمدن الخليجية وبنفس المسمى أحيانا، فإن التغيير الذي جرى على النسخة التراثية القديمة لإلباسها رداء حديثا، تجسد في صورة سوق حديث مختلف كليا عن الأسواق الحديثة، حيث احتفظ بالركائز الأساسية للسوق القديم. فلا تزال الأزقة الضيقة كما هي عليه، ولا تزال نفس المحلات التراثية تبيع نفس منتجاتها، من البضائع التقليدية كالحرف اليدوية مثل العطارة والتوابل والذهب والخياطة والتطريز وصنع العباءات العربية للرجال والنساء، اضافة الى بيع السيوف والخناجر وأدوات الموسيقى، بل وحتى الأسطوانات الموسيقية القديمة لكبار الفنانين العرب.

ويمكن القول إن الاهتمام الكبير الذي أبدته السلطات القطرية بتطوير السوق، أسفر عن تحول المكان التراثي الى معلم سياحي وثقافي في العاصمة القطرية الدوحة. ولا يستغرب المواطنون القطريون أن يشاهدوا الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولتهم، أو ولي عهده الشيخ تميم بن حمد، يتجولون بالسوق وفي أزقته، فهما من أشرف مباشرة على عمليات تطوير السوق.

الدالف للسوق سيجد مبتغاه أيا كان، فقد أصبح متعدد المشارب ومتنوع البضائع، وحتى الراغبون في الاستماع للموسيقى الخليجية التراثية، سيجدون مبتغاهم في «جلسات» موسيقية تعقد باستمرار، في باحة السوق الخارجية، حيث تصطف الفرقة الموسيقية كما حرفU ، فيما يتجمع هواة سماع الموسيقى والأغاني التراثية حولها، فتجد أنك تجلس في مطعمك الشعبي، وتستمتع بعزف فرقة موسيقية تقدم لك فقرات غنائية متعددة. ولا تقتصر تلك الفقرات على الفن الخليجي فقط، إذ داخلها الكثير من الموسيقى المصرية واللبنانية، وهو ما يجذب الجنسيات العربية التي تجد في سوق واقف ما لم تجده في أي مكان آخر.

ولعل ما يجذب الانتباه في السوق، أنه، ومع كل عمليات التطوير والحداثة التي جرت عليه، لا يزال يحتفظ بطابعه القديم، وهو ما يقول عنه مسؤولون قطريون، إنه يعكس مدى حرص دولة قطر على محافظتها بموروث الآباء والأجداد.

ومع أن السوق لا يزال يعج بالمتسوقين والزائرين، إلا أن أكثر الزوار يأتون ليتذكروا ماضيه الجميل، وقليل منهم من يشتري حوائجهم الأساسية منه، ويكتفي الكثير من هؤلاء الزوار بشراء الحاجيات هذه للتذكار فحسب.

ويقول عباس محمود، 65 عاما، ويعمل حمالا في السوق منذ أكثر من أربعين عاما، إنه لا يعمل فقط في هذا السوق «فأنا أستمتع بعملي، حتى أصبح سوق واقف بيتي الثاني، ومكاني الذي لا أستغني عنه». وبسؤاله عن التغيير في السوق بعد تطويره، يجيب عباس «بالتأكيد لا أزال أحن للأرضية الرملية والجدران العتيقة، لكن في نفس الوقت، فإن عملية التطوير لم تبعد روح السوق القديمة، فلا زالت المحلات نفسها، والبائعون لم يتغيروا. وبحسب المعلومات الرسمية، فإن لسوق واقف تاريخا عريقا يعود إلى أكثر من 100 عام، عندما كانت مدينة الدوحة قرية يقسمها واد اسمه «مشيرب» الى نصفين، وكانت السيول التي تجري من المرتفعات باتجاه البحر، تساهم في تعميق هذا الوادي الصغير، الذي كان يوميا مسرحا لحركة مد وجزر، وكان اهالي الدوحة، الذين سكنوا على ضفتي الوادي الشرقية والغربية، يجتمعون على ضفافه للبيع والشراء، ولم تترك مياه البحر الدافقة سوى ممر ضيق دفع الباعة للوقوف طيلة النهار لاستحالة الجلوس على الحواف، نظرا لضيق المكان، ولذا سمي بـ«سوق واقف». وكان السوق يضم ثلاثة انواع من المحال، أولها «العماير» وهي المخازن الكبرى التي تتعاطى الأعمال التجارية بالجملة والمفرق، وتخزن مواد البناء والأغذية كالتمور والارز. وثاني المحلات (الدكاكين) وتحتوي على مختلف المصنوعات اليدوية والحرفية مثل الخياطة والحياكة والنجارة. أما النوع الثالث من المحال فهو (البسطات)، وهي التي يقيمها الباعة المحليون في الهواء الطلق.

وقد ظل «سوق واقف» على ما هو عليه لنحو قرن من الزمان، حتى بدأ العمل في اعادة إحيائه والمحافظة عليه بتطويره، في عام 2004، وبتوجيهات مباشرة من الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، حيث تدخلت الحكومة القطرية، بعد ان كانت الفوضى تعج بالمكان، فتشوهت معالم السوق العتيق جراء الافراط في وضع النوافذ المعدنية واجهزة التكييف، كما كانت الأبنية الاثرية قد تداعت، وقامت على انقاضها أخرى اسمنتية حديثة تفتقد للهوية الثقافية أو اللمسة الجمالية. وقد وضعت خطة اعادة احياء السوق وبنائه، بعد دراسة مستفيضة لتراث قطر المعماري ومواد البناء من خلال عشرات الصور الفوتغرافية، التي التقطت من الجو في منتصف الاربعينات والخمسينات، فضلا عن السجلات والوثائق الرسمية الخاصة بتلك الأبنية، كما تمت الاستعانة بروايات السكان الذين عاشوا في الموقع القديم، فكانت بمثابة دليل اعتمدته خطة إعادة الإعمار، فتم هدم الأبنية الحديثة ليزال النقاب عن آثار الأبنية التراثية القديمة، واستبدلت السقوف المعدنية بأخرى من خشب الدنجل والخيزران، تغطيها حصيرة وفوقها طبقة من الطين، لشد الطبقتين الى بعضهما البعض، وحماية المبنى والقاطنين فيه من حرارة الشمس.