الإعلانات في القاهرة صراع بين «الربح» و«القبح»

الروائي يوسف القعيد: أهرب لقاهرتي في أفلام «الأبيض والأسود»

الاعلانات في شوارع القاهرة احتلت كل المساحات الظاهرة
TT

قبل نصف قرن تقريبا كان للقاهرة سحرها وطابعها الخاص بين مدن الشرق العديدة. غير أن وجه قاهرة اليوم تغيرت ملامحه وشاخت تحت سعار العولمة وعالم الإعلانات، هذا الصداع اليومي المزمن الذي يضرب شوارعها ومبانيها وميادينها. فمع تزايد المنافسة التجارية بين الشركات والأفراد على جيب «الزبون» القاهري، أخذ حجم الإعلان في شوارع القاهرة وعلى مبانيها أبعادا كبيرة وخطيرة، فكل يوم يسحب هذا العالم العشوائي مسحة الجمال والدفء من تحت أقدامها. البعض يعتبره تطورا طبيعيا في عالم لم يعد يعرف سوى «الأرباح»، كما أنه ينم عن إبداع وذكاء لترويج سلعة معينة، فيما يعتبره آخرون تجسيدا لكل معاني الفوضى والقبح الجمالي والأخلاقي.

لكن هناك من يعتبرون الأمر طبيعيا بخاصة في ظل احتدام التنافس الاقتصادي على مستوى العالم، واستهداف الأسواق أيا كان حجمها وطبيعتها. فالهدف دوما هو جذب المستهلك وإقناعه بكل الطرق والوسائل بأن يخرج ما في جيبه عن رضى وقناعة بما يعرض عليه! وأسهل وسائل الإعلان الحالية التي تمتلئ بها شوارع القاهرة وأوسعها انتشارا هي إعلانات الجوال إذ لا يكلف المعلن نفسه شيئا سوى كتابة ورقة بخط كبير للإعلان عن وجود تليفون جوال في الشارع مصحوبا بسعر الدقيقة وتحت شعار «اتكلم براحتك». ناهيك عن إعلانات الفياجرا، والمراكز الطبية، وشركات الحج، والزواج والعمرة، والتخلص من العنوسة. بل أن هيئة النقل العام المصرية قامت بالتعاقد مع كبرى مؤسسات الإعلان من أجل استخدام أسطولها من الحافلات في الإعلان عن منتجات وسلع مختلفة.

وإن كان هذا هو الحال فوق سطح الأرض فلم يسلم باطنها أيضا من امتداد هذا المد الإعلاني إلى أعماقها، ففي محطات مترو الأنفاق التي تمتد في الجهات الأربع للعاصمة القاهرة تنتشر اللافتات البلاستيكية الملونة الزاهية التي توحي بالانسجام مع التصميمات الداخلية للمحطات. كما قام جهاز المترو أيضا بالاتفاق مع شركات الإعلان الكبرى للترويج لمنتجات وسلع مختلفة عبر مساحات إعلانية كبيرة داخل هذه المحطات بل إلى المترو ذاته صار بدوره إعلانا متحركا عن العديد من السلع والمنتجات.

وحسبما يرى محمد رمضان ـ صاحب سوبر ماركت ـ فالإعلان أصبح ضروريا لاستمرار عمله بغض النظر عن أي شيء آخر. ويختار رمضان دوما لافتات القماش الضخمة التي يعلقها في الشوارع الرئيسية حول دكانه حاملة عروض أسعار مخفضة للسلع الغذائية. ويقول رمضان إنه يلجأ لهذه الطريقة لأنها أحد الحلول القليلة أمامه للحيلولة دون السقوط في بئر الركود، وأملا في جذب الزبائن خاصة أن هذه السلع لها صلاحية محددة. لكن هناك من يتأذى من الإعلانات أيضا، مثل عبد العزيز السعيد (رسام) الذي لا يخفي انزعاجه الشديد من الإعلانات، فهو يرى أن عالم الإعلانات التجارية جعل المدينة وكأنها ضحية لحادث سطو في وضح النهار. فهذه الإعلانات ـ على حد قوله ـ صارت مصدرا لثقافة عولمية جديدة تسرق هوية أبنائها دون أن يدروا أنهم ضحايا هذا الاستلاب المقنع! كما أنه تعد في رأيه نوعا من الجريمة المنظمة التي يصعب معرفة مرتكبيها. أما دينا سليم مديرة إحدى شركات الإعلان الكبرى في القاهرة فتعترف بأن الإعلانات على مباني المدن تتسم بالعشوائية والاستباحة كونها أصبحت مسرحا للصراع بين شركات الإعلان والمؤسسات التي تملك التوكيلات الإعلانية، إضافة إلى جهات حكومية تحصل الرسوم كما تشاء ولا علاقة لها بجماليات الشارع أو قبحه. وترى سليم أن هذه الفوضى الإعلانية تتسبب في مخاطر كثيرة من بينها أن كثيرا من هذه الإعلانات كانت سببا مباشرا في وقوع الكثير من حوادث الطرق. وتضيف سليم أن شركات الإعلان مسؤولة إلى حد كبير عن هذا التلوث البصري المنتشر في كل مكان، لكنها تعود وتقول إن الشركة الإعلانية في نهاية المطاف مرهونة برغبة العميل الذي يفرض رؤيته على التصميم والمساحة الإعلانية.

بينما يرى د. محمد فتحي يونس أستاذ الإعلام بجامعة المنصورة أهمية كبيرة للإعلانات التجارية في الشوارع وعلى واجهات المباني، إذ يعتبر الإعلان ذاته ثقافة ووسيلة إعلامية مؤثرة يجب التعامل معها بمزيد من الاهتمام والحرفية والحرص على تقديم لغة راقية ترفع ذوق الجمهور المستهدف. ويتابع يونس إن الإعلانات وسيلة ضرورية لتعريف الجمهور المستهدف بالجديد في عالم التكنولوجيا والاتصالات وغيرها من السلع الحيوية التي تدفع الأجيال الجديدة إلى عالم متقارب ومتجانس تنتقل معه البشرية إلى عصر إنساني جديد. ورغم شعور يونس بالضيق من الكم الهائل والعشوائي من الإعلانات التجارية في أماكن كثيرة إلا انه يعتبر الإعلانات «مظهرا جماليا» يغطي في أحيان كثيرة قبح الأبنية وألوانها غير المتناسقة.

ومنذ سياسة الانفتاح التي انتهجتها مصر في منتصف سبعينيات القرن الماضي تحولت الإعلانات من مرحلة الهواية والسذاجة إلى عالم احترافي قاس لا يرحم. وبدأ سيلها يتوالى في الشوارع وعلى واجهات المنازل وأحدث ذلك وعيا لدى الناس بأهمية الإعلان والأرباح التي يمكن الحصول عليها من ورائه. فبدأ تأجير أسطح العقارات والواجهات والجدران العالية التي تطل على الميادين والشوارع الرئيسية. وكانت هذه الإعلانات إيذانا ببدء عصر جديد يبشر بالرفاهية ويحاول البحث عن حلول عصرية.

من جانبه يقول د. سمير غريب رئيس «الجهاز القومي للتنسيق الحضاري» إن الإعلانات التجارية تمثل أهمية قصوى للمنتج والمستهلك غير أن المطلوب هو وضع هذه العملية في سياقها الصحيح. فعلى صعيد مصر أنشأت الدولة هذا الجهاز من أجل تحقيق القيم الجمالية في كل ما تراه العين خارج المباني. ويبين غريب أن هذه الفوضى لها أسبابها التي تتمثل في سيطرة رأس المال على الثقافة الاجتماعية وتأثيره العميق على مجريات الواقع القاهري. أما الروائي المصري يوسف القعيد فهو يفضل أولا أن يعرف نفسه بوصفه «المرغم على العيش في القاهرة»، تعبيرا عن ضيقه من الإقامة في القاهرة بكل ما تحمله من ازدحام، فهو يرى القاهرة مدينة عجوز وشائخة لا تقدم للناس إلا أسوأ ما فيها، ففوضى المعمار ـ بحسب الروائي المصري ـ تنتشر في كل شوارع العاصمة والألوان غير المتناسقة للبنايات والإعلانات التجارية عن السلع الاستفزازية تغذي قبح المدينة التي كانت يوما سحر الشرق، وكتب الرحالة الأوروبيون قصائد شعرية في جمالها وتناسقها البديع. لذا يهرب القعيد إلى الماضي القريب عبر الأفلام السينمائية القديمة (الأبيض والأسود) لمشاهدة جمال مدينته في شوارعها ومبانيها وحدائقها...وقتها ـ يقول القعيد ـ كان الجمال بلا حدود في المدينة الوحيدة في العالم التي تتجاور فيها جميع الأزمنة والحضارات والأديان. لكن الآن لا يجد المرء في القاهرة إلا الزحام والضوضاء والفوضى والتلوث البصري الدائم. لذلك تهرول كاميرا الأفلام الملونة اليوم إلى عشوائيات القاهرة لترسم لنا على سبيل المثال «هي فوضى؟» كونها «لا تجد جمالا يمكنها التعبير عنه في عاصمة الشرق».