باريس تودع أسبوع الموضة بعروض نابضة مثل رقاص الساعة

امرأة الشتاء المقبل مستقلة ذات حضور يبزغ كشعاع من وراء الغيوم

من عرض اللبناني إيلي صعب ومن عرض سونيا ريكيل
TT

* بمناسبة احتفالها بمرور 40 عاماً على تأسيس علامتها التجارية، استخرجت الفرنسية سونيا ريكيل المدفعية الثقيلة ولم تبخل في الانفاق على عرض الأزياء التذكاري الذي سحر الجمهور الباريسي والمئات من الصحافيين الذين غطوا موسم الثياب الجاهزة للشتاء المقبل. وسونيا، ساحرة بمعنى الكلمة لأنها، بشعرها البرتقالي المنفوش وتجاعيدها الخرافية، تشبه الساحرات اللواتي تتحدث عنهن كتب الأطفال. لكنها ساحرة طيبة، تحب ألوان قوس قزح وتتفاءل بها وتشهرها كالتمائم في أوجه سفراء الشر. بعض عارضاتها كن على شاكلتها، بشعر اصطناعي برتقالي مجعد مقصوص على شكل هرم، يرتدين فساتين عريضة لكنها تحدد معالم القوام لأنها من أقمشة ناعمة تلتصق بالجسم وتتراوح ألوانها بين الجوزي والحليبي والأسود. ومن يتمعن في نقوش تلك الأقمشة يلاحظ أن المصممة رسمت وجهها على القماش، بكل تحولاته وألوانه، خصوصاً أن ملامحها تجعل منها قريبة من تلك الشخصيات المحبوسة في لوحات القرن السابع عشر. أما المعاطف فقد كانت مسرفة في فرائها، بينها واحد قصير من الفراء الصناعي الأسود المخطط بخطوط صفراء رفيعة بالعرض، تبدو لابسته وكأنها نحلة ضلت طريق الربيع ووجدت نفسها في الشتاء. وعموماً، فقد سايرت سونيا زملاءها المصممين في اتفاقهم على أن تكون سيدة شتاء 2009 امرأة مستقلة قوية الحضور، تميل الى الثياب الخارجية القاتمة التي تنفتح عن فساتين وتنورات مشرقة الألوان، أو عن لمسات فاقعة كشعاع يبزغ من وراء غيمة.

وكعادته، استقطب عرض المبدع اللبناني إيلي صعب، حضوراً فخماً من الزبونات ووسائل الاعلام، خصوصاً بعد أن صارت فساتينه عناوين للأعراس الباذخة والحفلات ومهرجانات السينما العالمية. ومع صعب لا بد أن يكون الموعد احتفاء بكل ما أدخرته الطبيعة للمرأة من نعومة، وكل ما أغدقت على رجلها من موهبة السخاء في تلبية احتياجات أناقتها المكلفة.

كشاكش، وكشاكش، والمزيد من الكشاكش. وأميال من الحرير والموسلين والكريب، في فساتين تتوقف فوق الركبة أو تنسدل لتلامس الكاحل في قصات فضفاضة، هفهافة، مبهرة، لسيدة لا تعرف من دنياها سوى كيف تتفتح كزهرة تزين عروة زمانها. ولأنها أُنثى من قمة رأسها حتى اصبع قدمها الصغير، فلا بأس من كتف مستورة وأُخرى منسية بلا ستر، أو من نحر عار يتنافس في البريق مع العقد المتدلي فوقه. إن موضة إيلي صعب تبدو فالتة من جاذبية المواسم والتغيرات السنوية. وهي تتناسل من أرحام فساتين الماضي وتبشر بولادة فساتين المستقبل، وكأنها تود أن تبلغنا برسالة تقول إن الأقمشة تتبدل والألوان تضمحل ويبقى سرّ المرأة أقوى من تقلبات ثيلبها، أو كما يقول المثل اللبناني «القالب غالب».

نتابع العروض ونكتشف كم تختلف أساليب المصممين بين عرض وآخر. فقد حظيت مجموعة الثنائي دولتشي أند غابانا بالكثير من الترقب. وجاءت تصاميم الصديقين الايطاليين اللذين يرسمان سوية بيد واحدة مليئة بالشباب وبالطابع العملي في آن، وكأنها صممت لتلبي طموح النساء المعاصرات اللواتي تعملن خارج البيت وتدرسن وتسافرن بلا قيود. وبرزت تشكيلة واسعة من الأقمشة المطبوعة بالمربعات الملونة، من كل الأحجام والألوان، وكانت تلك المربعات المتضادة التفاصيل تتداخل في الزي الواحد بشكل يحتاج الى جرأة في المخيلة المصممة، والى جرأة أكبر في قرار الارتداء. ولو حاولنا أن نحصي عدد الألوان التي خلطها دولتشي وغابانا في هذه المجموعة لاحتجنا الى آلة حاسبة قادرة على تمييز التدرجات البيانية والى خبير لغوي لابتداع تسميات لألوان مستولدة وغير مطروقة.

أما مجموعة بالانسياغا فقد أراد لها مصممها نيكولا غيسكيير، أن تكون تحية لبطلات سينما الرعب وأفلام المستقبل، بفساتينهن المختصرة التي يلتف جانب منها على الجانب الآخر ومعاطفهن المصنوعة من المشمع اللماع. إنها عودة الى أزياء الثمانينات واستلهاماتها الهندسية وتأثرها برحلات الفضاء الخارجي. وهي أزياء مرسومة لامرأة جريئة ومغامرة، لا تتحرج في اعتماد مظهر لافت للنظر طالما أنها قادرة على حماية نفسها بأسلحة من هذا الزمان.

ودعت باريس اسبوع الموضة وارتاحت من اللهاث ما بين صالات العرض التي جمعت 90 مصمماً من الشرق والغرب. ولو أردنا أن نتذكر ما بقي في البال من أطنان ما شاهدنا لما عثرنا سوى على بقايا عطر أُنثوي قوي يتسرب من جحافل العارضات اللواتي يضربن المنصات بكعوب خشبية عالية، مثل جيش من جيوش السلام والجمال والذوق الذي لا يتوقف عن الابتكار.