فرنسا تحتفل باليوم العالمي للمرأة باستحضار النساء المناضلات

صور 9 فرنسيات توشح واجهة مثوى العظماء في باريس

TT

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة الذي يصادف تاريخه اليوم، ارتفعت على واجهة المبنى التاريخي لمثوى العظماء في باريس (البانتيون) صور ضخمة لتسع من الفرنسيات اللواتي عملن في فترات تاريخية مختلفة، على تحسين ظروف معيشة النساء وتحقيق العدالة لهن. ورفع الستار عن الواجهة التي تستمر حتى منتصف الشهر الجاري، عمدة العاصمة برتران ديلانويه بحضور عدد من المرشحين للانتخابات البلدية التي تجري غداً.

من هن السيدات التسع اللواتي غطت وجوههن مقبرة العظماء واستوقفت المارة والسياح وأضفت البهجة على الواجهة الرمادية المتجهمة للمبنى في طقس باريس الغائم المطير؟

تتوسط الواجهة صورة جميلة للفيلسوفة والكاتبة سيمون دو بوفوار (1908 ـ 1986) التي تحتفل فرنسا هذه الأيام، بمئوية ولادتها. ويلاحظ أن الصورة التي اختيرت لها تظهرها بكامل أناقتها وزينتها، خلافاً لما يشاع عن «استرجال» نصيرات حقوق المرأة. وحازت دو بوفوار، وهي في الحادية والعشرين، شهادة الكفاءة في الفلسفة وكانت أصغر حائزة عليها في فرنسا. لكن شهرتها ذاعت في العالم كله لا بوصفها أُستاذة للفلسفة وإنما لكونها الكاتبة التي شكلت ثنائياً في الحياة وفي الفكر مع الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر، ولأنها نشرت كتاب «الجنس الثاني» عام 1949 وحللت فيه أسباب قهر النساء وطالبت لهن بالمساواة. وتحول كتاب دو بوفوار الى شهادة مهمة تلهم حركات تحرير المرأة في العالم. وقد تركت التدريس لتتفرغ للكتابة ونشرت روايات لقيت نجاحاً، أبرزها «المدعوة» و«المانداران»، التي نالت عنها جائزة «غونكور» عام 1954.

الصورة الثانية هي للسياسية ماري غوز التي اشتهرت باسم أُولمب غوج (1748 ـ 1793). وولدت غوج في مونتابان، جنوب غرب فرنسا، وتزوجت وترملت في سن مبكرة، وقادها عشقها للحرية لأن تحمل طفلها وتصعد الى باريس لتنشر كتابها الأول الذي جعلها من أوائل النساء في تاريخ فرنسا. وكان أشهر كتاباتها نصها المعنون «إعلان حقوق المرأة والمواطنة». لكن المجتمع لم يتقبل أفكارها فاعتقلت وحوكمت أمام محكمة ثورية عام 1793 وحكم عليها بالإعدام وشنقت علناً... هي التي كانت قد طالبت للمرأة بالحق في اعتلاء المنابر والمشانق معاً.

الفرنسية الثالثة التي رفعت صورتها في يوم المرأة لم تكن فرنسية بالولادة بل طالبة فيزياء ولدت في بولونيا وانتقلت الى باريس لتواصل دراستها وتتزوج من أُستاذها الفرنسي وتحمل اسمه. إنها ماري كوري (1867 ـ 1934)، المرأة التي نالت جائزة «نوبل» مرتين لأبحاثها حول النظائر المشعة. وماتت ماري كوري متأثرة بالإشعاعات التي تعرضت لها في عملها بالمختبر ودفنت في المكان نفسه الذي ترتفع فيه صورتها اليوم، أي في مقبرة العظماء بجوار ضريح زوجها بيير كوري.

صاحبة الصورة الرابعة هي جورج صاند (1804 ـ 1876)، وهي أديبة كانت تدعى أُورور دوبان، اتخذت لنفسها اسماً مذكراً وارتدت ثياب الرجال وتمردت على القدر الطبيعي المرصود لنساء جيلها في الزواج والأُمومة، وانفصلت عن زوجها وعاشت مستقلة مع ولديها لكي تكتب وتقيم صالوناً أدبياً يرتاده مشاهير عصرها. وقد أُغرم بها عدد منهم، أمثال الكاتب ألفريد دو موسيه والموسيقار شوبان. وطالبت صاند للنساء بالحق في الطلاق والمساواة في الحقوق المدنية، لكن حريتها وتنكرها بزي الرجال وتدخينها الغليون أثارت عليها نقمة المجتمع الذي اعتبرها خارجة على قوانينه. لكن الأوساط الأدبية أعادت لها الاعتبار وأدرجتها بين رائدات تحرير المرأة.

الفرنسية الخامسة سوداء من جزيرة مستعمرة غواديلوب تدعى سوليتود (1772 ـ 1802)، لها حكاية تستحق أن تحفظها الأجيال. لقد اشتهرت بنضالها ضد العبودية.

ولما أُلغي الرق عام 1794 تصورت سوليتود أنها صارت حرة للأبد، لكن نابوليون بونابرت أعاد العمل بنظام الرقيق عام 1802 وأرسل قواته الى غواديلوب للقضاء على العبيد الذين أرادوا التمسك بحريتهم. وانضمت سوليتود الى هؤلاء وقاتلت بالأظافر حتى إلقاء القبض عليها وهي حبلى وجريحة. وتم شنقها في اليوم التالي لولادة طفلها مباشرة.

ثم كانت هناك صورة كوليت (1873 ـ 1954)، وهي أديبة معروفة تزوجت في سن مبكرة من زوج كان يستغل موهبتها الأدبية مما جعلها تتمرد عليه وتحترف الغناء وتقدم عروضاً مثيرة شكلت فضيحة في وقتها. لقد رفضت كوليت الممنوعات وكانت حياتها وكتاباتها تجسيداً لشغف العيش، كما حققت رواياتها شهرة عالمية وجرى انتخابها عضواً في أكاديمية «غونكور» الأدبية الرفيعة. ولما أسلمت المرأة الفضائحية الأنفاس كانت أول فرنسية في التاريخ تقام لها جنازة وطنية.

سابعتهن هي شارلوت دلبو (1913 ـ 1985) وكانت عضواً في الشبيبة الشيوعية وشاركت في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. أُلقي القبض عليها في ربيع 1942 مع زوجها جورج دوداش الذي أُعدم بالرصاص بينما سجنت هي قبل ترحيلها الى معسكر «أُوشفيتز» النازي ووشمت ذراعها بالرقم 31661. وفي عام 1945 تحررت من المصير القاتم وكانت واحدة من 49 امرأة نجين من ذلك المعسكر. وحال خروجها من هناك تفرغت للكتابة ونشرت عام 1965 سيرة 229 سجيناً من رفاقها الذين قضوا في المعتقل. الصورة الأُخرى هي لماريا ديريم (1828 ـ 1894) وهي سياسية جمهورية وصحافية كانت رمزاً من رموز حركة تحرير المرأة، ناضلت من أجل حقوق المرأة والطفل والديمقراطية، وأسست العديد من الجمعيات النسوية وكانت ذات فكر رحب، تؤمن بالمساواة وتعمل لها. ومن غرائب حياتها أنها شاركت، بدعوى حقوق الإنسان، في تأسيس أول محفل ماسوني مختلط في فرنسا، قبل وفاتها بسنة.

الفرنسية التاسعة والأخيرة هي لويز ميشيل (1830 ـ 1905)، السياسية الفوضوية والمناضلة والمعلمة التي ارتادت الأوساط الاشتراكية وكتبت في صحف المعارضة وشاركت في معارك كومونة باريس وكان جزاؤها النفي الى جزيرة كاليدونيا الجديدة. وبعد عودتها الى فرنسا واصلت نضالها حتى آخر رمق في حياتها، رغم أنها سجنت ونفيت الى لندن.

هل تقر بنات الجيل الجديد من الفرنسيات بجميل أُولئك الرائدات اللواتي ضحين بالراحة والسمعة والحياة لكي تصل حفيداتهن الى الحق بإعطاء أسمائهن وجنسياتهن الى أبنائهن، والحق في اختيار وقت الحمل، والحق في دخول جامعة السوربون التي كانت محرمة على الطالبات، والحق في العمل والحصول على مناصب في الوزارة والسفارة والجيش والبرلمان، بل والترشح لرئاسة الجمهورية؟