ثقافات الماضي الأميركي في معرضين

يقدم أقدم خريطة للقارة ومخطوطات لكريستوفر كولمبوس

«الأميركتان القديمتان».. معرض يقصده زوار كثر بمكتبة الكونغرس في واشنطن («نيويورك تايمز»)
TT

عند وصولك إلى آخر أقسام معرض «الاميركتان القديمتان» في متحف فيلد بشيكاغو، بعد أن تكون قد شاهدت الاعمال الخزفية المتميزة والصور الكبيرة للامبراطوريات العظيمة لشعوب الانكا والمايا والازتيك تصل إلى غاليري معتم يحمل عنوان «حينما تتصادم العوالم» وفي قاعدته هناك شيء واحد يتمثل برأس منفصل عن جسد لتمثال صخري لشخص من الازتيك.

وتلك الغرفة هي احتفاء بذكرى حضارات وأعداد كبيرة من الناس ماتت مع بدء السيطرة الأوروبية على القارتين الاميركتين في عام 1492 وفي نص مجاور يمكن قراءة ما يلي: «تم مسح الملايين من السكان الأصليين مع مزيج كبير من اللغات والأديان والأنظمة السياسية، خلال عقود من المرض والحروب والعبودية».

وللاخضاع الذي قامت به أوروبا لهذا العالم الجديد مكان بارز في معرض آخر مقام في مكتبة الكونغرس بواشنطن يحمل عنوان: «استكشاف الأميركتين المبكرتين» وهو معرض دائم ويضم حتى الآن 3000 قطعة تم التبرع بها من قبل رجل الأعمال وجامع الأعمال الفنية جاي كيسلاك ويضم مئات من الأعمال الفنية الأميركية المبكرة إضافة إلى كتب وخرائط أوروبية. وفي مركزه هناك رسوم تعود للقرن السابع عشر من المكسيك ولا يعرف من هم مبدعوها. وتسمى هذه اللوحات بـ «إخضاع المكسيك» وتعكس التاريخ الملحمي لإخضاع الكورتيس لامبراطورية الأزتيك وفيها تشاهد رسوم اسبان تغطيهم صفائح معدنية واقية على ظهور الخيول وهم يواجهون رجال الازتيك المرتدين جلودا تشبه جلود النمور.

ورسمت هذه الأعمال بعد فترة طويلة على انقضاء المعارك وهي تستند إلى الرسائل التي كان يكتبها الفرسان الأسبان (الكورتيس) إلى الامبراطور تشارلز الخامس ما في عامي 1521 و1522، وهناك نسخ من تلك الرسائل في معرض المكتبة. وفي إحدى الرسائل يصف كاتبها الحصار الذي انتهى بالانتصار لعاصمة الازتيك على يد 800 إسباني مدعومين بأكثر من 150 ألف جندي جاءوا من قبائل محلية. وكتب ذلك الفارس عن أبناء الأزتيك: «كانت معاناتهم كبيرة جدا تتجاوز القدرة على فهمنا كيف يمكنهم احتمالها».

لكن مسار تلك المعاناة في المكتبة هي مختلفة عما هو قائم في معرض شيكاغو. ففي المكتبة أصبح الإخضاع جزءا من قصة معقدة حتى إذا لم تروى كاملة، أما في معرض شيكاغو فإن النتيجة هي أقرب إلى حكاية أخلاقية يضيق منظورها كلما تقدم المشاهد فيها. والنقيض يقدم تنويها كم هو عميق هذا التاريخ الذي ما زال ساكنا في مواد المتحف.

وبغض النظر عن القضايا الأكثر عمقا فإن كلا المعرضين يقدمان مواد مثيرة. ففي واشنطن تظهر حياة شعب المايا داخل القاعات الملكية حيث تظهر على الخزفيات وجوه شبيهة بوجوه أوروبية مع المهرج والمستشار والسيدات المنتظرات.

كذلك تعرض المكتبة مواد مختلفة لا تدخل عادة ضمن المجموعات الفنية بما فيها عظم محفور وكان يستخدم من قبل التاينوس من أجل التطهير.

كذلك هناك شاشات تقدم حكايات مع صور، إضافة إلى عرض الوثائق الاستثنائية بما فيها تلك الخارطة الشهيرة التي تعود لعام 1507: وهي الأولى التي تظهر قارتي العالم الجديد والأولى التي يظهر عليها اسم أميركا.

وبالنسبة لمعرض شيكاغو فهو ينقل جانبا آخر مختلفا عن المتحف فهو يغطي مراحل تبدأ من العصر الجليدي حتى غزو الأوروبيين، لكنه ايضا يقدم معروضات متنوعة، بما فيها عرض دائري لمئات من الجرات والكؤوس من جنوب غرب الولايات المتحدة تم صنعها ما بين عامي 750 و1400 ميلادية وكل منها يحتوي على نقوش متكررة سوداء مع خلفية بيضاء. وليس هناك شيء استثنائي مثل الوجوه، فهي تبدو مرحة ومتوسلة وملحة وساخرة على خزف مجتمع الموك الذي كان يسيطر على الساحل الشمالي لبيرو لمدة 7 قرون حتى عام 800 ميلادية.

الرسالة الرئيسية تتلخص في ان «اميركا القديمة تتسم بالتنوع والتغيير، وليس التقدم». يشير النص الى وجود «فسيفساء بشرية ثرية» وأيضا الى «مساهمات هؤلاء في حياتنا اليوم». المجتمعات المتنوعة التي شملها المسح اشير اليها في إطار حلها للمشاكل ومحاولتها الارتباط ببيئتها. حسبما جاء في العرض، يأتي المزارعون بعد من كانوا يعتمدون على الصيد والجمع، وهي مجتمعات كانت خاضعة لحكام أفراد أصحاب سلطة قوية تبعهم بعد ذلك امبراطورات، إلا ان عملية التتابع هذه لا تعتبر في حد ذاتها تقدما. حتى التمييز القديم بين الحقب، مثل العصر الحجري والعصر الحديدي، تم الاستغناء عنها، والرسالة الواضحة هي ان التقدم لا يعدو ان يكون وهما. كل حقبة لها سماتها المميزة. واحد من الأعمال المعروضة يشير الى ان «الصيد والجمع طريقة عظيمة للعيش»، وان الذين مارسوا نشاط الصيد والجمع بغرض العيش كان لديهم بصورة عامة وقت فراغ أكبر مقارنة بالمزارعين وكانوا ايضا «يحترمون» النساء وكبار السن. الثناء والإشادة كانا يقدمان باستمرار: «سكان المناطق الساحلية بجنوب كاليفورنيا»، حسبما جاء في واحد من الأعمال المعروضة «أوجدوا وتبنوا تقنيات ذكية وجديدة في ذلك الوقت» للمحافظة على البقاء خلال الفترة بين عام 7000 قبل الميلاد و1600 بعد الميلاد وابتكروا الهربون وقوارب التجديف الصغيرة. إلا ان الحقيقة التي ربما تكون اكثر تعقيدا هي انه خلال فترة الـ9000 سنة هذه ظهرت تقنيات ذكية محدودة، وهي الفترة التي استطاعت خلالها مجتمعات اخرى تطوير الكتابة والعلوم والطب. ثمة وجه مقارنة رئيسي للحضارة الغربية العظيمة ظهر في ذلك الوقت وهو ان وحشية امبراطوريتي الإنكان والآزتيك كان لها نظيرها في الوحشية في روما القديمة. اذا اخذنا في الاعتبار المقولة التي تشير الى ان «كل الثقافات» صحيحة في نظر الأفراد الذين ينتمون اليها، فإن لا احد يجرؤ على الإشارة الى ان ثمة ما يمكن ان نعتبره «تقدما» في فهم المجتمع للعالم، مثل التقدم الأخلاقي الذي تبديه في الوقت الحالي المجتمعات الغربية الحديثة. فيما يتعلق بالأعمال المعروضة التي تشير الى ان البربرية الاوروبية كانت من نوع مختلف، فإن التاريخ الاميركي المبكر للحرب والاسترقاق والتضحية البشرية يشير بدوره الى ان مثل هذا النوع من السلوك كان معيارا سائدا وليس استثناء. ربما يكون الغزو الاوروبي هو الحدث الأكثر بروزا لأن ثقافات المجموعات التي كانت وراء الغزو ونفذته كانت في واقع الأمر في مرحلة تطوير مفهوم مختلف للحرية البشرية، كما هو واضح في العرض بمكتبة الكونغرس.

من السمات المميزة لهذا العرض تحاشيه تشويه التاريخ الوجداني انما سلط الضوء على عدة جوانب من خلال أحكام وتقديرات متزنة ودقيقة اخذت في الاعتبار تقدير انجازات ثقافات الماضي، وجرى ايضا سرد احداث ووقائع الغزو ورصد التفاعل الذي حدث عقب ذلك، كما تعكسه الوثائق والخرائط، على نحو اصبحت معه تعقيدات الماضي اكثر وضوحا، ليس فهما كاملا تماما، لكنه تقدم.

* خدمة «نيويورك تايمز»