قاض سعودي تنقل بين عدة دول ليؤلف كتاباً عن تاريخ الكعبة

الملك فيصل بعد غسيل الكعبة المشرفة
TT

في محاولة للتماهي مع جلال وجمال المكان، تتجلى كسوة الكعبة المشرفة في الصندوق المخملي الذي يحمل داخله تاريخ عمارة الكعبة؛ مقروناً بأسماء من نال ذلك الشرف؛ على مر التاريخ البشري. بدءاً بإبراهيم الخليل عليه السلام ومروراً بعصور الخلافة الإسلامية. جاء كتاب «الكعبة المشرفة عمارة وكسوة» للباحث محمد حسين الموجان واحداً ضمن عدد قليل من الكتب الجادة، المؤرخة لتاريخ عمارة الكعبة المشرفة وكسوتها. في 456 صفحة من القطع الكبير يتناول كتاب «الكعبة المشرفة عمارة وكسوة» في سرد تاريخي قصة البيت العتيق، منذ أن وضعت الملائكة الأساس الأول للبناء. وهو ما ضمنه الموجان في كتابه؛ على اعتبار أن ذلك الأساس هو ركيزة مختلف أنماط العمارة للكعبة على مر العصور. مشيراً إلى صفة بناء شيث ابن آدم وخليل الله ابراهيم عليه السلام. كونهما شكّلا أول عمارة بأيد بشرية. في حين شكّل غلاف الكتاب مع صفحاته الداخلية تحفة فنية رائعة بألوانها وزخرفتها، زادت من وهجها الأخّاذ الصور الشارحة لفصوله، بهدف ابراز القطع الخاصة بالكسوة؛ سواءً الداخلية أو الخارجية؛ بالإضافة إلى ستائرها وأحزمتها؛ إلى جانب اكياس مفاتيح الكعبة، وستائر مقام ابراهيم عليه السلام؛ بشكل جذاب وجميل يليق بجمال وجلال الكعبة المشرفة.

ولم يقف أمر الصور عند متعلقات الكسوة؛ بل جاء الكتاب متضمناً لعمارتها التي كوّنت أبجديات الفن الإسلامي بكل عراقته. مثلتها الزخارف والنقوش على باب الكعبة وباب التوبة، بالإضافة لمفاتيحها وأقفالها، باعتبارها إحدى العلامات الدالة على تطور الفن الإسلامي في عصوره المختلفة؛ عبر نوعية الخامات التي كانت تُصنع منها. في حين يظل شرف كسوتها منقوشاً بحروف من اسلاك الفضة المذهبة، على أحزمتها وستائرها. وهو ما بدا واضحاً في القطع التي عرضها الكتاب، والمذيلة بتوقيع معظم من حظي بشرف خدمة البيت الحرام.

من جهة ثانية حرص المؤلف على ان يضمن كتابه بعض الرسومات التقريبية للكعبة الشريفة، في عهود ما قبل الإسلام وبداياته الأولى ضمانا لشمولية الكتاب، لكل معلومة تتعلق بكسوتها وعمارتها بريشة فنانين عالميين مسلمين من أمثال عبد الملك ماستر، وحظيت فصول الكتاب الثمانية الأولى بكثير من رسومات الكعبة؛ وأنماط عمارتها في أزمنة التدوين الأولى. في حين احتلت صورة أحد الأعمدة الخشبية الثلاثة التي تحمل سقفي الكعبة المشرفة؛ والعائدة لعام 684 للميلاد، في عهد عبد الله بن الزبير؛ بعد إعادة بنائها الاستثناء الوحيد في الفصول الستة الأولى.

وجاء الفصل السابع والثامن حاوياً صور مفاتيح وأقفال الكعبة في العهدين المملوكي والعثماني؛ مع صورة نادرة لباب التوبة المصنوع من خشب الساج، الذي يعود للعصر المملوكي، وأخرى لباب الكعبة المصفح بالفضة المطلية بالذهب في العهد العثماني في عام 1635 للميلاد، وهو معروض في المتحف الوطني بمدينة الرياض السعودية. الباب صنع بأمر من السلطان مراد الرابع الذي أفرد الكتاب لعمارته للكعبة بضع صفحات؛ كونها العمارة الحادية عشرة للكعبة؛ بعد عمارة الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، وهي العمارة التي عليها الكعبة حالياً. ولم يكن سهلاً أن يتجاوز الكتاب عمارتها في العصر السعودي. الذي صُرفت فيه مبالغ طائلة من خلال توفير أجود خامات وأدوات البناء على الطرز الحديثة، المتناسبة مع قدسية المكان.

وجاءت صناعة وتركيب اول باب للكعبة في عهد الملك عبد العزيز آل سعود، متزامنة مع إنشاء أول دار للكسوة وصناعاتها عام 1927 في مكة المكرمة. كل ذلك كوّن ما يُشبه طريقاً سلكه الأبناء. لتشهد جدران الكعبة أعمال الترميم في عهد الملك سعود. أعقبتها عمليات التجديد لبابيها في عهد الملك خالد. وشملت تلك الأعمال الحجر والمقام الذي أخذ شكله الحالي؛ منذ عهد الملك فيصل رحمه الله؛ بعد وضعه داخل الغطاء البلوري، وحمايته بمقصورة نحاسية لها قاعدة من الرخام الأسود. إلا أن أحدث عمارة للكعبة كانت في عهد المغفور له الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود؛ على إثر ظهور تصدع في الرخام المفروش داخلها، والرطوبة التي أحاطت بالحجر الأسود.

الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه؛ لتجديد عمارة الكعبة في عام 1996، وهو تجديد شمل جدران الكعبة الداخلية، وسقفها وأعمدتها التي حُلي كل واحد منها بأطواق الذهب، مطعمة بزخارف نباتية وكتابات متضمنة بعض اسماء الله الحسنى. إلى جانب أعمال العزل والرخام واستبدال الشاذروان، في حين تم تغيير الرخام القديم لحجر اسماعيل، وعمل مصطبة حراسة بجانب الحجر الأسود لتنظيم عملية تقبيل الطائفين له.

فكرة الكتاب كانت بمثابة اللمعة؛ التي اخذت الشيخ محمد الموجان إلى عالم الفن الإسلامي الجميل فكانت تلك الرحلة التي ناهزت العشرة أعوام هي فترة البحث في تاريخ العمارة والكسوة متنقلا ما بين روحانيات البيت وهيبته وجماليات الفن وروعته. ما حمله على صرف مبلغ طائل تجاوز الخمسة ملايين ريال بقليل؛ توزعت بين الأسفار والتصوير والتصميم وفصل الألوان والورق والطباعة والتجليد.

ولأن طريق الباحثين ليس مفروشاً بالورد، تلقى الموجان أول عثرة، عندما اكتشف أن معظم كساوى الكعبة قد هاجرت خارج أرض الحرمين إما من خلال البيع أو الإهداء، لتتفرق إلى قطع تناثرت بين متاحف العالم، فيما حُفظ بعضها الآخر لدى أفراد، ما حمل الشيخ على البحث في جهات متعددة «بدأت البحث من خلال سدنة البيت المعظم، وفوجئت بأن أغلب القطع هاجرت وتم إهداء البعض الآخر. في حين تنحصر معظم القطع على العصر الحديث. وأحدث قطعة موجودة يعود تاريخها للعام 1961م. في العصر السعودي؛ بعد عودة صناعة الكسوة لمكة المكرمة». ولأن رغبة الشيخ جامحة في جمع كل المعلومات المتعلقة بالكساوى في معظم العصور الإسلامية السابقة. كان طبيعياً أن يحذو حذو الرحالة العرب، في البحث والتنقل بين مختلف الأقطار العربية والإسلامية والعالمية. بدأها من مصر؛ التي لم تخذله متاحفها الزاخرة بقطع تعود للعهد الملكي المصري، فمنها ما يرجع لفترة حكم الملك فؤاد الأول وابنه فاروق؛ بالإضافة لأخرى في زمن الحكم الجمهوري. ومن تلك عدد القطع التي تراوحت بين 15 ـ 20 شملت أجزاء من الكسوة وستارة باب الكعبة وأحزمتها؛ إلى جانب ستارة مقام ابراهيم؛ إلا أنها كانت مجرد أجزاء تعود لسنوات متفرقة. حصيلة الشيخ من المتاحف المصرية لم تُقنعه؛ بل كانت بمثابة الدافع لشد الرحال نحو عاصمة الخلافة العثمانية استانبول، التي شهدت أروقة متحفها العتيق طوب قابي خطى الشيخ المتكررة؛ على مدى ثلاث سنوات؛ أملاً في السماح له بتصوير مقتنياته من كساوى الكعبة الشريفة؛ العائدة للعهدين المملوكي والعثماني، والتي شكلت الجزء الأكبر من مادة الكتاب المصورة.

ومن القاهرة الى نيويورك حط الشيخ رحاله متنقلاً بين ارجاء متحف المتروبوليتان واللوفر بالعاصمة الفرنسية؛ الذي حوى مفتاحين للكعبة من مقتنيات خاصة بيعت للوفر. وفي قصر العظم بدمشق وجد الشيخ القطعة الفاصلة بين قطعتي حزام الكعبة صناعة مكة المكرمة والمحمل. فيما جاءت الوجهة التالية نحو متحف القصر بإيران؛ الذي حوى اربع قطع من الكسوة كاملة من العهد العثماني تعود للفترة بين عامي 1303-1304هـ. إلا أن الرحلة في بلاد فارس حملت الموجان هذه المرة بعيداً. نحو عاصمة الضباب لندن لرؤية احدى القطع الأصلية من حزام الكسوة مكيّة الصنع، لعلمه بأهميتها البالغة والهائلة حسب وصفه، والمتضمنة حزام الكسوة؛ كونها الوحيدة التي اقتناها الدكتور ناصر خليلي وتعود لعهد الملك عبد العزيز آل سعود.

رحلة البحث الشاقة عن الكسوة. مكّنت الموجان من نفض الغبار؛ عن بعض القطع حبيسة صناديق الزجاج في متاحف العالم. ربما كان أبرزها الكسوة الداخلية الحمراء؛ التي صنعت في الهند 1354هـ. وتم كسوة الكعبة بها من قبل الملك عبد العزيز في عام 1355هـ. ولم يقف عند ذلك بل كان الاستناد على المنافسة بين القبائل العربية في كسوتها امراً أوقف الشيخ طويلاً داخل حدود اليمن السعيد، لتتبع أثر بني رسول؛ ممن حكموها في السابق. وعدّ الموجان المحمل رمزاً للكسوة؛ ما دفعه إلى تخصيص الفصل السابع منه؛ لموضوع الاحتفال بكسوة الكعبة الشريفة. شارحاً بعض ملامحه في العصرين المملكوكي والعثماني. ومتضمناً طريقة تنظيمه وكلفته. واقتصر الباحث على ذكر المحامل التي اتخذت صفتها من اسم البلد القادمة منه. مثل المحمل المصري والشامي والعراقي والعثماني واليمني والمغربي، فيما كان التركيز على المحمل المصري؛ كون مصر هي البلد الذي حظي بشرف كسوة الكعبة في أزمنة عديدة. وظلت كذلك حتى العهد الملكي، وإبان تحولها للنظام الجمهوري فترة الحكم الناصري. وهو ما كان بادياً من خلال قطعة الإهداء التي حملت توقيعه.

ولأن الحديث عن كسوة الكعبة الشريفة، جاء الفصل الخامس مكرساً للمعلومات المتعلقة بدار الكسوة، التي اتخذت من منطقة الخرنفش في وسط القاهرة داراً، ضمت ايادي امهر الفنانين في الحياكة والتطريز، وبما أن للكسوة في العهد السعودي قصة أخرى، أفرد الباحث لها الفصول الثلاثة الأخيرة. تناولت إنشاءها وتفاصيل صناعتها؛ بالإضافة لوصف مراسم تسليمها لسدنة البيت الحرام، انتهاءً بإلباسها للكعبة في أول أيام عيد الأضحى المبارك.