القصر الكبير في باريس ينصب ساعته على توقيت ماري أنطوانيت

معرض يعيد الاعتبار إلى الملكة التي قطع الثوار رأسها الصغير بالمقصلة

لوحات وأثاث من معرض ماري أنطوانيت في باريس
TT

في خريف 1793 ساقها الثوار الى المقصلة في باريس، لكن الفرنسيين يعيدون اليوم شيئاً من الاعتبار الى ملكتهم ماري إنطوانيت من خلال المعرض الذي جرى افتتاحه عنها أمس، في القصر الكبير ويستمر حتى نهاية يونيو (حزيران) المقبل. هل يمكن لهذا التكريم أن يمسح من الأذهان العبارة الشهيرة لهذه الملكة، التي سمعت صيحات الجياع، تحت نافذة قصرها، وهم يطلبون الخبز، فتساءلت بتعجب: «لماذا لا يأكلون الغاتوه»؟

تاريخ من الرفاهية والدلال والتمتع بأرقى ثمار الحياة يروى من خلال 300 قطعة من الوثائق والرسائل والأثاث والثياب واللوحات والمقتنيات الفاخرة التي مرت عليها، ذات يوم، لمسة الملكة اللاهية التي لم يعرف عنها الاهتمام بالفنون أو رعاية الفنانين، لكنها كانت من أكبر مشجعي الصناعات التزيينية ونجارة الأثاث الفاخر في عصرها. فتلك الشابة التي رأت النور في فيينا لأُسرة من النبلاء والملوك، حملت عند ولادتها اسماً مركباً يليق بنسبها الرفيع: ماري أنطونيا جوزيفا فون هابسبيرغ، وجمعت من الألقاب ما يصعب أن يجتمع لنبيلة واحدة: دوقة النمسا الكبرى، أميرة امبراطورية، أميرة ملكية لهنغاريا وبوهيميا، وأخيراً ملكة فرنسا ونافار وزوجة الملك لويس السادس عشر، سليل أُسرة بوربون.

إنه المعرض الثاني، بعد واحد أُقيم عام 1995، الذي يروي سيرة ملكة وصفت بخفة العقل من أقرب الناس إليها. ألم يقل عنها شقيقها الامبراطور جوزف الثاني، إن «رأسها في الريح»؟ لكن منظمي المعرض لم ينساقوا وراء المواقف المتوارثة والروايات الشعبية، سواء أكانت صحيحة أو متخيلة، بل قدموا التاريخ الذي وصل اليهم، كما هو، بالحياد الجميل الذي يترعرع في أحضان الأُمم التي تجاوزت الثارات وبلغت ضفاف التصالح مع ماضيها.

وهي أيضاً حكاية امرأة عرفت أعلى درجات البذخ ثم انتهت مرذولة وكسيرة لا تكاد تفقه ما يجري لها، ولماذا خسفت دنياها بها بعد أن كانت الحاشية تتسابق لتلبية رغباتها، والفنانون يتبارون لكي يرسموا ملامحها، والموسيقيون يؤلفون لها المعزوفات التي تبهج القلب. إنها تلك اللوحات البديعة التي يتفرج عليها زوار القصر الكبير في باريس اليوم، وبينها واحدة للملكة المخلوعة وهي تساق إلى مصيرها الحزين تحت المقصلة التي تجزّ الرؤوس. والى جانب اللوحات تعرض المئات من المجوهرات ومناضد الزينة والتيجان والأوعية الخزفية العلب المزخرفة والأردية المنقوشة في زمن بلغت فيه المهارات اليدوية أوجها في فرنسا. إنها مخلفات ملكة أحبت اللهو وحاولت أن تتعلم الرقص والغناء وكانت لا تهوى العيش، إلا وهي محاطة بالأشياء الجميلة والنادرة التي كانت كثيراً ما تصممها بنفسها وتعطيها للحرفيين لكي ينفذوها. وبهذا فإن ماري أنطوانيت لم تكن ملهمة حقيقية لكبار الرسامين بقدر ما كانت محرضة على ابتداع الأثاث الباهر وقطع الزينة. أما ذوقها في الموسيقى فلم يكن بأفضل منه في الرسم، فقد أحبت ملكة فرنسا الموسيقار غلوك وفرضته على حفلات البلاط، كما قربت غريمه بوتشيني وشجعت سالييري من دون أن تفطن الى عظمة موزار الذي كانوا قد قدموه لها.

والمعرض يشبه عرضاً مسرحياً يتنقل فيه الزائر عبر المحطات الرئيسية من حياة ماري أنطوانيت، منذ ولادتها، عام 1755 في قصر «شونبرون» الشهير الماثل حتى اليوم في العاصمة النمسوية، مروراً بأفراد أُسرتها التي جلس أفرادها على أكثر من عرش أُوروبي، لحين اقترانها بلويس السادس عشر والفخفخة التي تميزت بها قصور ملوك فرنسا في زمانها، وانتهاء بقيام الثورة وسجن الملكة في مبنى «الكونسييرجري» لغاية إعدامها.

يخبرنا دليل المعرض أن عروس ولي عهد فرنسا، جاءت من فيينا وهي لا تعرف التحدث بالفرنسية بل وتتكلم الألمانية بشكل سيئ. كانت طفلة غريرة في الرابعة عشرة من عمرها، تلقفها دهاقنة البلاط في «فيرساي» لكي يلقنوها كيف تصبح سيدة القصر وتتعايش مع مكائد المحظيات. ويروى عن ماري أنطوانيت أنها لم تعرف كيف تضع توقيعها على عقد زواجها فرسمت صورة عجينة من الفطائر التي تراها على مائدة الطعام. لكن الطفلة النمسوية المتمردة على العادات الفرنسية وقواعد «الأتيكيت» سحرت قلوب الحاشية التي كانت مبهورة بنزقها. ثم انقلب السحر عندما اعتلت العرش وتذوقت طعم النفوذ، وجعلت من الغطرسة طبعاً لها. وحتى نمط ثيابها تغير وصار مجالاً للتندر بسبب مبالغتها في البهرجة والألوان والريش والشرائط بشكل يليق بمغنيات الملاهي لا بزوجات الملوك.

ومن كل الخزانات التي امتلأت بثيابها ومجوهراتها التي لم تكن تجد الوقت لارتدائها كلها، سيقت ماري أنطوانيت الى حتفها بثوب بال، شعثاء الشعر، زائغة النظرة، مربوطة اليدين وراء ظهرها، وخلد المشهد أحد رسامي ذلك العصر الذي كان يغلي بالمفاهيم الجديدة.