مسرحية لبنانية تسخر من مشاهديها حد التجريح

«حضارة» في بيروت تضحكك رغم أنفك

الممثلون الأربعة في مشهد العشاء الذي لا يتم (تصوير: جوزيف أبي رعد)
TT

ساعة وأربعون دقيقة من الضحك، هدية لا تقدّر بثمن حين تكون مواطناً لبنانياً هذه الأيام. ففي «مسرح المدينة» الذي يتوسط شارع الحمراء، يقف أربعة من الممثلين المتمرسين، كل ليلة على الخشبة، ليقدموا لجمهورهم مشاهد من يومياتهم التي قد تبدو لهم عابرة واعتيادية، لكنها عند التأمل تصبح غاية في الكوميدية. لا سياسة على الإطلاق في مسرحية «حضارة» وهذه ميزتها، بل محاولة لتعرية البديهيات بطريقة بريئة وعميقة في آن.

هل سبق وشعرت أنك رهين طنين ساعة الفرن التي أفلتت من عقالها ولم تعد تتوقف، وأعصابك أسيرة جرس إنذار السيارة الذي انطلق بدوره لا تدري لأي سبب، وفي نفس الوقت ها هو تلفون منزلك، كلما جاءه اتصال يرد مجيبه الآلي بأنك غائب، وينصح المتصل بتسجيل رسالة، علماً بأنك تقف إلى قربه ولا تدري كيف تصلح أمره. إنها التكنولوجيا التي تحاصرنا، وتربكنا، بقدر ما تسعفنا وتخدمنا. ومسرحية «حضارة» المقتبسة عن نص للإنجليزي الساخر واللاذع مايكل فراين، تأخذنا إلى منزل زوجين يستضيفان زوجين آخرين على طاولة عشاء، لكن الأمور تصبح معقدة للغاية حينما ترن وتطن آلة ما، كلما حاول المجتمعون فتح باب الحديث. الاسكتشات تتوالى، نترك عذابات المجتمعين على مائدة العشاء، لنلتقي برواد نادٍ ليلي يعانون من صمم إلزامي بسبب أصوات الموسيقى الصاخبة. ومع ذلك فهم مصرون على التحادث والتسامر، من دون أن يفهم أحدهم الآخر، وكأنما فطر الإنسان على التواصل، وهذه الموسيقى المجنونة لا وظيفة لها سوى قطع ما يمكن أن يتصل. الرجل والمرأة في الملهى الصاخب، يصران على تبادل كلام يصبح في النهاية حوار طرشان، لعب على الكلام وتخبط في حوار سريالي، يثير موجات من الضحك في صالة لا بد أن كل من فيها عاش يوماً ما، هذا الموقف الغريب والمتكرر أيضاً.

اسكتش الطائرة، لعله أيقونة هذه المسرحية الهازئة منا حتى التجريح، فالأشخاص الثلاثة الذين يجلسون متجاورين، يبدو على اثنين منهما، انهما من رواد الطائرات الدائمين، لذا فهما منشغلان بالقراءة، ولا يعيران اهتماماً لما يحدث حولهما. أما هذا الرجل القابع في الوسط، فهو مهتم بمعرفة إرشادات النجاة في حال الطوارئ. لكن الصوت الذي يذيع التعليمات يثير الذعر في نفس الراكب لكثرة ما يستغرق في التفاصيل المنذرة بشرور مستطيرة قد يتعرض لها. وتشطح الإرشادات إلى مواضيع غير متوقعة وغرائبية، تنعكس آثارها على وجه هذا المسافر الفضولي، الذي يفلح في أن يرسم على سحنته صوراً وعلامات استفهام ودهشات وامتعاضات وفرحاً زاهياً. تناقضات متسارعة يجسدها وجه بشري في دقائق معدودات، انها متعة أن تشاهد هذا الممثل (إيلي متري) قادراً على استخدام وجهة وحده كي يقول ما قد يعجز عنه لسان.

لا تولي هذه المسرحية اهمية للديكورات، أو اللعب على الإضاءة، فالتقشف بالغ، ومهمة الإمتاع أخذها على عاتقهم الممثلون مع نصّ معرب وملبنن، اشتغل عليه مخرج المسرحية، وأحد الممثلين فيها غبريال يمين. استاذ في المسرح له باع في الموسيقى والتلفزيون، ويعرف كيف يخرج الضحك من أعماقك مهما حاولت أن تفتعل الجدية واللامبالاة. أما الممثلة المعروفة رندا أسمر، ومعها خريجة «ستار أكاديمي» سنتيا كرم، فلم تقلاّ براعة عن زميليهما. وفي اسكتش تدور أحداثه بين مطاري «أورلي» و«شارل ديغول» الباريسيين، ثمة حكاية مثيرة أخرى تتسبب بتعقيدها التكنولوجيا. حكاية آتية من زمن ما قبل «الموبايل». حيث كان بمقدور الإنسان أن يبقى يبحث عن الآخر، طوال النهار من دون أن يعثر عليه، ولو كان يقف بقربه. يزيد الطين بلة وجود المجيب الآلي، الذي كلما استخدمه أبطال الحكاية ليعثروا على بعضهم البعض، زادت قصتهم تعقيداً وحالهم تيهاً.

بعض الاسكتشات الطريفة جداً كانت تحتمل اختزالاً، مثل تلك المشاهد التي تنقلنا إلى اجتماع عمل لموظفي شركة، تمنعهم الخطابات الطويلة والمملة من أن يستمتعوا بطعام أو شراب، من المفترض انهم دعوا اليه، حيث تختلط الصحون بالأوراق والملفات التي يقلبونها استجابة لتنبيهات الخطيب/ المدير الذي يصر على أن يراجعوا التفاصيل معه.

ثمة في هذا العمل الذي يستطيع أن يضحكك من دون أدنى إسفاف، وقليلاً ما نشهد له شبيهاً في لبنان، ما يجعل الرغبة في الضحك مضاعفة. فكل القصص مبنية على أمرين اساسيين: المفارقات التي تخلقها التكنولوجيا التي تبتزنا وتمتعنا في آن، وعدم قدرة الشخصيات على التواصل في ما بينها من جانب آخر. فالأشخاص الأربعة الذين بدأت بهم المسرحية على طاولة عشاء لم يتم، يظهرون من جديد في النهاية، وهم يهمّون بتحضير الفطور. طلع الضوء، وما يزالون يحاولون أن ينسجوا حواراً ما، كان ما يزال عسيراً ومرتبكاً. لقد احتاجوا لساعات طويلة قبل أن ينجحوا في ايجاد موضوع يهمهم جميعاً. انها مجموعة من النمائم الصغيرة حول أصدقاء مشتركين، أو غير مشتركين. أخبار حول من أحب ومن خان أو من طلّق زوجته، يعيشونها باندماج كلي. أو ليست بعض التفاهات هي خبز الإنسان وملحة، وأوجاع الآخرين هي تلك الإبرة السحرية التي قد يخيط بها المرء أوجاعه؟ مسرحية حضارة يرى فيها البعض متعة لا تضاهى، بينما لا يحتمل البعض الآخر أن ينظر إلى نفسه في المرآة ويكتشف كم هو هزلي حين يكون في غاية الجدية.