بنايات تعكس الهوية الثقافية لعصرها

في مدينة ناطحات السحاب

تمكن بعض المعماريين من تخطي عقبة القواعد المتعارف عليها وذلك عن طريق الهياكل الخارجية
TT

إن برج «إتش إل 23»، والمخطط إقامته في شارع 23 في تشيلسي (نيويورك)، هو المهمة التي كان نيل ديناري ينتظرها طوال حياته المهنية. وظل ديناري، وهو مهندس معماري من مدينة لوس أنجليس ومدير سابق لمعهد كاليفورنيا الجنوبية للهندسة المعمارية، يعمل لعشرات السنين في ظلال المهنة، إلا أن الحاجة أخيراً إلى مبنى سكني يحمل علامة تجارية في نيويورك، منحته في النهاية الفرصة لإثبات جودة تصميماته على أرض الواقع. وديناري ليس وحده في هذا الأمر، فالمبنى الذي صممه هو أحد مجموعة أبراج سكنية تتميز بالترف، تم بناؤها بالفعل أو جار تصميمها بواسطة أشهر رموز الهندسة المعمارية. ففي خلال السنوات الخمس الأخيرة، تم بناء أكثر من اثني عشر برجاً، علاوة على عدد مماثل من الأبراج التي من المخطط أن يبدأ إنشاؤها في العام الحالي. وتتراوح هذه البنايات بين الأبراج الشاهقة ذات الزخارف الدقيقة والمصممة من قبل مشاهير عالميين، من أمثال جان نوفل وفرانك جيري، وتصميمات معمارية أصغر حجماً وعلى نفس الدرجة من الجودة لموهوبين أقل شهرة من أمثال ديناري. ومع الأخذ في الاعتبار الاضطرابات التي تعاني منها الأسواق المالية، فإن إنجاز هذا العدد الكبير من الأبراج في وقت قصير هو أمر غير مضمون إلى حد بعيد. ولكن حتى مع استكمال عدد قليل منها، فإن التأثير النهائي لهذه البنايات سيكون بمثابة أعظم تحول في الهوية المادية للمدينة منذ ستينات القرن الماضي. فما تتمتع به هذه البنايات من تصميمات لافتة للنظر ودقة شكلية (التي قد يراها البعض بهرجة زائدة) تعكس خليطاً من اتجاهات وأساليب لم تشهدها المدينة من قبل. كما تكشف هذه البنايات عن تحول واضح في ميول مجموعة من صفوة نيويورك وتطلعاتها، التي أصبحت تتخذ من التاريخ المعماري للشقق السكنية أسلوباً جديداً للتعبير عن وضعها الاجتماعي. وعلى خلاف ما فعلته أجيال سابقة من أغنياء نيويورك من الاختباء خلف حصون محصنة في بيوت سكنية بجادة بارك أفنيو، أو بداخل مباني تفتقد للتميز، فإن هذه الصفوة ترغب في أن تسكن في بنايات تعكس تفردها وما تملكه من ثروة. فبعد عقود من الآن قد تكون هذه الأبراج المنمقة، التي يتصف بعضها بالجمال والبعض الآخر بالبروز الزائد، الدليل الأخير على أول مظاهر الترف في هذا القرن.

ويشتهر حي مانهاتن بنيويورك، على مدى تاريخه الطويل، بأثرياء راغبين في حياة خيالية، ممن تنصب اهتماماتهم على الروائع المعمارية الجديدة. فعند بناء أول أبراج سكنية فارهة في المدينة في أواخر القرن التاسع عشر، تم الترويج لها على أنها انتصارات تكنولوجية مزودة بمقومات جديدة، مثل المصاعد ونظام التدفئة بالبخار وأجهزة طبخ تعمل بالغاز. وتوفير سبل الراحة على غرار تلك المقدمة في الفنادق، مثل الحاجب وخدمات المغسلة، عمل على تقليل تكلفة الخدم الخصوصيين. وعندما اندلعت الاضطرابات المدنية والتوترات الطبقية، نظر الأغنياء إلى هذه المباني المرتفعة (التي يصل بعضها إلى 11 طابقاً) كوسيلة للهروب مما يحدث في الشارع.

وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلاءم الهوس بالتكنولوجيا مع حاجة سكان المدينة إلى التعرض للضوء والهواء. وخلف الواجهات ذات الطابع الإيطالي فإن الأفنية الداخلية لهذه الأبنية السكنية الفاخرة مثل مبنى داكوتا وأنسونيا تعكس مجهودات إبداعية تهدف إلى التخفيف من الازدحام في المدينة. وفي الستينات من القرن العشرين، ظهرت بنايات الطوب الأبيض ذات الطابع العصري وما تميزت به من شقق يملؤها الضوء وأروقة شفافة تطل على أفنية خضراء. وتعكس السطوح الخارجية المزخرفة للمباني الحديثة التي تحمل توقيعاً، تحولاً جديداَ في أولويات الهندسة المعمارية. ففي الوقت الذي كان فيه تركيز الابداع التكنولوجي منصباً على العمل الداخلي، من أعمال الصرف الصحي إلى الهياكل الفولاذية، فإن معظم الإبداعات المعمارية تركز اليوم على الشكل الخارجي للمباني. ولم يرض هذا التحول الجميع. فالمتمسكون بالتقاليد، والذين لا يزال يزعجهم ظهور الحركة العصرانية، لا يرون المباني التي تحمل توقيعاً امتداداً للواجهة التاريخية للشارع. وينتقد هؤلاء هذه الأعمال على أسس جمالية في المقام الأول، حيث يعتبرونها تعبيراً عن غرور وخيلاء في الفن المعماري. من الصحيح أن بعض المباني الجديدة تعكس رغبة في لفت الأنظار. فعندما بدأ العمال منذ سنتين في العمل في مبنى هيرزوج ودي ميرون الواقع في شارع 40 بوند بإيست فيليدج، رحب الجميع بالمبنى الذي اعتبروه أول مشروع سكني جاد في المدينة تصممه شركة عالمية مشهورة. أما اليوم فالواجهة الزجاجية الخضراء تبدو متكلفة. وتدل بوابة محكمة الصنع، التي صممت لتشبه عملا جرافيتيا ثلاثي الأبعاد على مجهود فائق للوصول إلى مشهد من الماضي (وعلى الرغم من ذلك فقد بيعت كل وحدات المبنى مقابل عدة ملايين من الدولارات، قبل أن تشارف أعمال البناء فيه على الانتهاء). وظلت المدينة تعاني من نقص في أساليب الفن المعماري المبتكر. وفي رأيي، فإن أعظم المشروعات السكنية التي أنشأت في القرن الماضي استطاعت أن تحقق توازناً بين الحرية الجمالية وتفهما للفروق الدقيقة في البيئة المحيطة. وبدلاً من اتباع أساليب المحاكاة، تعد هذه المباني تعبيراً مادياً عن حاجات البيئة ومتطلباتها.

وتشبه هيئة البرج الذي صممه جيري، والمكون من 74 طابقاً في شارع بيكمان بالقرب من سيتي هول، الارتدادات الجدارية والخطوط العمودية الواضحة في برج شركة راديو أميركا بمركز روكفيلر، كما تماثل النيوكلاسيكية التي تميزت بها موسكو في عصر ستالين. وتثير الطبقات المجعدة من الفولاذ الذي لا يصدأ الإعجاب، فعندما يومض الضوء عبر الواجهة تبدو وكأنها تذوب في جداول من الماء. وعلى نحو مماثل، فإن نموذجا مصغرا ومستدق الطرف من البرج السكني والفندقي الذي صممه نوفل من 75 طابقاً، والمخطط إقامته على موقع بجوار متحف الفن الحديث في شارع ويست 53، هو محاولة لاستغلال ناطحات سحاب نيويورك، مثل مبنى كرايسلر. إن تصميم السطح الزجاجي الأنيق لهذا النموذج يوحي بتساقط قطع من الزجاج من السماء. وتتداخل شبكة من الأشعة عبر السطح الخارجي للمبنى فتبدو البناية وكأنها تستجمع قواها لتواجه قوى سيكولوجية واقتصادية تضغط من كل الجوانب.

وارتبطت هذه الانتصارات الجمالية الضخمة بعدد من التصميمات التي تجمع بين رؤية بنائية متينة ونقد للأفكار العصرية عن النقاء. فأشكالها الملتوية تهدف إلى إظهار تصادم القوى، الذي يشكل المدن المعاصرة، بدءاً من قواعد تخصيص الأراضي إلى رغبات الساكنين الخاصة.

وكالعديد من المباني العالية والفارهة الأصغر حجماً التي يتم بناؤها هذه الأيام، فإن المبنى الذي صممه ديناري سيتم بناؤه على قطعة أرض صغيرة واقعة بين برج في شارع 23 ومتنزه «هاي لاين»، الذي سيتم بناؤه على رقعة مرتفعة ومهجورة من أراضي السكك الحديد. والمبنى ذو الأربعة عشر طابقاً، الذي من المقرر أن يبدأ العمل فيه الشهر الجاري، مصمم بحيث يدور ويزداد حجماً بينما يأخذ في الارتفاع ليتيح رؤية واضحة للمتنزه بأكمله. وعند بعض نقاط الوصل في المبنى ستتم إزالة السطح المعدني لتتيح رؤية كاملة للمناظر الخارجية. وعبر أنحاء المدينة، تتضح هذه الاستراتيجية في مبني بلوبيلدينج للمصمم برنارد تشومي، الذي انتهت فيه أعمال البناء أخيراً. ويتسع المبنى، المزخرف على هيئة رقعة داما من نوافذ زجاجية سوداء وزرقاء موزعة بشكل غير منتظم، في أحد جوانبه عند النقطة التي يرتفع فيها عن المباني المحيطة، ليبدو وكأنه يحاول أن يتسع إلى أكبر قدر ممكن في الجزء الواقع في «لووار إيست سايد». ويتضح تأثير هذا الاعوجاج في الشكل عندما تدور حول المبنى وتشعر باختلاف في كل جانب من جوانبه، فيبدو وكأنه قطعة مجوهرات ضخمة تتلألأ في الضوء. إن حالة الافتتان الحالية بالأسماء التجارية الجديدة قد فتح باب المهنة لآراء جديدة وغير متوقعة. فلقد مر وقت طويل منذ أن كتبت عن مبنى مصنوع بطريقة بدائية من الحصى مثل بناية «بلازو شوبي» لجوليان شنابل، التي اكتمل العمل فيها العام الماضي في شارع ويست 11. إن ورق الحائط القرنفلي الساطع، الذي تزينه نوافذ قنطرية الشكل على الطراز الفينيسي، يجعل البناية تبدو كما لو أنها سقطت من أعلى مخزن للبضاعة. ومع ذلك، يظل الحجم الزائد والتعارض بين الأساليب جرأة مطلوبة، حيث تكون في بعض الأحيان أقرب إلى الأسلوب المعماري المحلي الذي يتميز به الشرق الأقصى، وهو أسلوب متأثر بالطرق القديمة يمثل اتجاهاً موازياً للعصرية المفرطة التي تتضح في الكثير من الأعمال المعاصرة. وإجمالاً، تشكل أعظم هذه المباني إضافات رائعة للصورة الظلية التي تبدو على خلفية السماء، وتحرراً من عقود من الركود الإبداعي. إن الاهتمام بالسطح الخارجي يجعل من التمسك بالأصول والقواعد المضجرة المتعلقة بدواخل المباني أمراً محبطأ للغاية. فدواخل هذه المباني كان من الممكن أن يتم تصميمها بواسطة مسوقي عقارات، وهو ما حدث بالفعل في الكثير من الحالات. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من الأجهزة الباهظة الثمن واللمسات الأخيرة المترفة في بنايات شارع 40 بوند، فإن التصميمات لا تختلف عن بعضها البعض. وينطبق ذلك على الشقق المكونة من غرفة واحدة أو غرفتين أو ثلاث غرف، وكذا فيلات التاون هاوس، كما ينطبق الأمر فعلياً على كل المشروعات التي ذكرتها حتى الآن.

وتمكن بعض المعماريين من تخطي عقبة القواعد المتعارف عليها الخاصة بالعقارات، وذلك عن طريق تشكيل هياكل خارجية تضفي تجربة خاصة على المساحات الداخلية. فعلى سبيل المثال، عندما أدرك الاستشاريون في شركة «فوريست سيتي راتنر»، وهي الشركة المسؤولة عن تشييد المبنى الذي صممه جيري في شارع بيكمان، أن الحيطان المجعدة الموضحة في التصميمات ستنعكس صورتها بداخل الشقق، كان قد فات الأوان لإجراء أي تغيير بدون تكلفة باهظة سيتطلبها تغيير في التصميم. والحق يقال إن نيويورك لم تعرف من قبل بالجرأة في التجربة في ما يتعلق بالمساحات الداخلية. فلم يكن هناك نظير في مانهاتن لبناية «أونيتيه دابيتاسيون» للمصمم المعماري لو كوربسيير في مارسيليا. والمبنى، الذي تم إنشاؤه عام 1952، عبارة عن لوح ضخم ممتلئ بتشكيلة لا نهاية لها من الشقق المتشابكة. ولم تقترن الإبداعات التكنولوجية في هذا الصدد بهذا النوع من التجريب الاجتماعي.

* خدمة نيويورك تايمز