في إسبانيا.. مهن للمهاجرين فقط

بلنسية (اسبانيا): نبيل دريوش

بيدرو هاتزلهوفر يعمل في مطعم للوجبات السريعة، مع مهاجرين من مختلف الجنسيات «الشرق الأوسط»
TT

بمجرد ما بدأت جحافل المهاجرين تتقاطر على اسبانيا بعد زحف ربيع الديمقراطية حتى انسحب الاسبان من مهن اشتهروا بممارستها من أجل كسب قوتهم في بلدان اوروبية مختلفة خلال ليل الديكتاتورية، الذي يبدو الآن بعيدا. ومع الوقت ظهرت مهن خاصة بالوافدين الجدد إلى فردوس العرب المفقود أي أولئك الباحثين عن حياة أفضل فوق أرض لم تكن إلى حدود الأمس القريب على خارطة أحلام الطيور البشرية المهاجرة.

باتت اسبانيا تستهوي أيضا العرب للهجرة إليها، غالبيتهم من المغاربة والجزائريين الذين لعب قدر الجغرافيا دورا حاسما في مجيئهم إليها، وحافظت كل جالية منهم على خبرات ومهن اكتسبتها بين حدود وطنها الذي يجرفها الحنين إليه بين لحظة وأخرى.

ويقول محمد. ن، 32 عاما، من وهران، يعمل مديرا لسنترال هاتفي بمدينة بلنسية، «إنها مهنة للمهاجرين بامتياز، إذ يصعب أن تجد اسبانيا يقوم بهذا العمل، لكون الاسبان باتوا تواقين إلى ممارسة مهن اخرى مثل الطب والهندسة والعمل في البنوك، يعتبرون انفسهم مواطنين أوروبيين، وبالتالي لم تعد بعض المهن تليق بهم، كما أنهم يرون ان المهاجرين أكثر قدرة منهم في ممارستها، فغالبية زبائن السنترالات من المهاجرين العرب أو المتحدرين من اميركا الجنوبية». ويضيف محمد ذو السحنة السمراء بلكنة جزائرية واضحة، حتى عندما يتحدث مع بعض زبائنه بالإسبانية «نادرا ما يعمل الإسبان أيضا في مهن النجارة والحدادة والبناء، رغم أنها مهن تدر دخلا جيدا، وتكاد هذه الحرف تكون موزعة حسب الجنسيات، فالمواطن الإسباني بات يعلم أن أفضل الصباغين، هم رومانيون مثلما أن اللبنانيين هم أفضل من يقدم أكلات شرقية، بينما العاملون في شركات الخدمات يتحدرون من دول أميركا الجنوبية، بحكم أنهم لا يواجهون مشاكل في اللغة». أما رزق. أ مهاجر مغربي، 27 عاما، فيرى أن الوضعية القانونية للمهاجر تلعب دورا مهما في تحديد المهنة التي يزاولها ولو بشكل مؤقت، وهو ما يشرحه قائلا، «المغاربة الذين لا يتوفرون على أوراق الإقامة، غالبا ما يقصدون القرى الأندلسية في الجنوب، من أجل كسب قوتهم بعيدا عن أنظار دوريات الشرطة، ويكابدون ساعات تحت قيظ لا يطاق، فالمهاجر السري لا يمكنه العمل في البناء مثلا، بحكم تردد مفتشي الشغل على ورشات البناء، كما انها مهنة خطيرة، يجب أن يكون العامل فيها مؤمنا عليه في حالة وقوع كارثة».

ويسترسل رزق قائلا، «يبدو أن بعض المغاربة أيضا أصابتهم العدوى من بعض الأنشطة، التي يزاولها الغجر مثل جمع الأدوات القديمة، وإعادة بيعها في الأسواق المخصصة لذلك، أما ابناء جلدتهم ممن يتوفرون على بطاقة إقامة تحت سماء شبه الجزيرة الأيبيرية، فإنهم يعملون في المطاعم وورشات البناء، ويتعرضون لاستغلال أقل حدة». ليست الجاليات العربية التي تشتغل في مهن المهاجرين في اسبانيا على قدم المساواة، وهو ما يؤكده رزق قائلا «اللبنانيون والمصريون مثلا يأتون إلى أوروبا، وقد ادخروا بعض المال، مما يمكنهم من انجاز مشروع استثماري صغير أو متوسط، مثل مطعم للأكلات الشرقية أو بعض محال الجزارة والمحال المتخصصة في المواد «الحلال». ويبدو المهاجرون الأفارقة الأقل حظا في سلم المهاجرين، بحكم أن وضعيتهم غير القانونية وصعوبة تعلمهم للغة، تجعلهم يمتهنون مهنا بسيطة مثل بيع الأقداح واللعب في المقاهي، وهو العمل الذي لا يدر عليهم غير مبلغ زهيد بالكاد يكفيهم لسد رمقهم، لذلك يعيش غالبيتهم في العراء طيلة فصول السنة، ويقتسمون مع بعضهم كسرة الحلم والخيبة. ولا يأتي إلى اسبانيا لاعبو كرة القدم البرازيليون الذين جرت بذكرهم وسائل الإعلام فقط، بل مهاجرون يمتلكون ملكات خاصة في الرقص والغناء، يصطحبون معهم آلاتهم الموسيقية وقدرتهم شبه الفطرية على اتقان رقصة «السامبا» وترديد أغان اشتهرت بها أرض نجوم كرة القدم. لذلك يبحثون عن عمل بمجرد وصولهم إلى اسبانيا في الملاهي الليلية المنتشرة مثل نبات الفطر، ليدخلوا البهجة على قلوب الاسبان التواقين إلى ارتشاف لحظات سعيدة بعد يوم عمل في الادارات والمصانع يكون في الغالب متعبا. وبما أن الجميع لم يولد فنانا أو عازفا موسيقيا في هذا العالم، فإن بعض البرازيليين يكسبون قوتهم عن طريق العمل في بعض المطاعم أو المقاهي، وهو حال بيدرو هاتزلهوفر مهاجر برزيلي، 24 عاما، الذي جاء من مدينة ساو باولو منذ ستة أشهر، وقصد أحد مطاعم الوجبات السريعة للعمل مساعد طباخ. ويقول بيدرو لـ«الشرق الأوسط» بحماس ظاهر، «البرازيليون الذين لم يخترهم القدر لسلك طريق الفن، يعملون في المقاهي والمطاعم، لأنها مهن لا تحتاج على تواصل كبير بحكم أن أول عائق يصادفه المهاجر متعلق باللغة، والعمل طباخا لا يحتاج إلى اتقان للغة، مثل بعض المهن التي تجعل المرء في تواصل مباشر مع الزبائن الإسبان»، وينهي بيدرو حديثه بعبارة ممتزجة بابتسامة خفيفة «إن المهاجرين يعملون في مهن مختلفة، لكنهم يجتمعون كلهم في المساء في المقاهي الاسبانية ليرقصوا على ايقاع «السامبا» البرازيلية التي تجعلهم ينسون همومهم في انتظار فجر يوم عمل جديد».