في ذكرى رحيله الـ22 ما زال صلاح جاهين مبدعا بألف وجه

صلاح جاهين
TT

* أنا اللي بالأمر المحال إغتوى، شفت القمر نطيت لفوق في الهوا،

* طلته ماطلتوش إيه انا يهمني، وليه مادام بالنشوة قلبي ارتوى، وعجبي..

* صدق عم صلاح في رباعياته التي عبر بها عن ولعه بالمجهول والانطلاق والأماني رغم انكسارها على أعتاب نكسة الخامس من يونيو(حزيران) عام 1967. فعم صلاح الذي تتواكب ذكرى رحيله الثانية والعشرون كل عام في الحادي والعشرين من شهر أبريل، حالة تستحق الحديث وبخاصة مع التفكير في تجسيد شخصيته في عمل درامي يروي سيرته الذاتية، رغم تجسيدها في مسلسلي العندليب، والسندريلا منذ عامين، حيث كان مقرباً من كليهما. ولم لا وقد نجح عم صلاح الذي تخطى مرتبة الشاعر ورسام الكاريكاتير والسيناريست والممثل، وكاد أن يصل الي مرتبة الفلاسفة، مارس كل الفنون ولكنه فشل في أن يحقق حلمه بأن يصبح راقص باليه كما قال في أحد حواراته، ليس بسبب ضخامة وزنه ولكن بسبب صعوبة الحركات التي كان مطلوباً منه أداؤها. وعلى الرغم من ذلك كان له الفضل في تعليم صديقه وزميله في مكتب روز اليوسف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، رقصة الفالس. في مدخل صالة منزله بحي المهندسين والذي لا تزال تقطن فيه زوجته الفنانة منى قطان، صورة كبيرة بالألوان له في آخر سنة من عمره، يجلس وهو يضع عباءة على كتفيه يحتضن على صدره وكأنه يحتضن الحياة بيأس واستسلام، وليدا رضيعا هو حفيده أحمد، من ابنته أمينة التي شاء القدر ان ترتبط بابن واحد من أقرب أصدقائه إلى قلبه (أمين) ابن الشاعر فؤاد حداد. لا تعلم وأنت تشاهد الصورة ماذا أراد أن يقول من خلالها، ولكنها في النهاية لقطة تعبر عن جزء من علاقته بالحياة التي بدأت في 25 ديسمبر من عام 1930، كان ذلك في شارع جميل باشا بحي شبرا كما تقول الوثائق العائلية، ولادة عسيرة كاد أن يموت فيها ذلك الوليد الذي لم يصرخ عند قدومه للحياة كبقية الولدان، حيث خرج صامتاً للحظات ليظن الجميع أنه مات بالفعل فيضربونه على ظهره برفق للتأكد فينطلق صوته الذي لم يصمت حتى لحظة مفارقته للحياة.

أطلق عليه والده المستشار القضائي بهجت حلمي اسماً مركباً هو محمد صلاح الدين، وقد كان في طفولته متأثراً بما يسمعه عن جده أحمد حلمي الذي كان ذا بصمات واضحة في عالم الصحافة السياسية المصرية منذ أوائل القرن الماضي حتى أن واحداً من أشهر ميادين القاهرة لا زال يحمل اسمه وهو ميدان أحمد حلمي بشبرا القريب من محطة قطار مصر في منطقة رمسيس.

منذ سن الثالثة عشرة من عمره، أيقن حبه للرسم وموهبته فيه، فحلم بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة والدراسة بها ثم السفر الي باريس حيث العالم المتسع للفنون، إلا أن رغبة والده في أن يرث عنه عمله بالقضاء، جعلته يقدم أوراقه في كلية الحقوق لإرضاء أبيه وفي كلية الفنون الجميلة لإشباع هوايته، والنتيجة كانت أنه لم يكمل تعليمه في كلتا الكليتين، وهو ما عرضه كما قال ابنه الكاتب والشاعر بهاء جاهين، في أحد الأيام لمعاتبه شديدة من والده الذي عنفه متهماً إياه بالفشل في الحياة بعد إهماله لدراسته وإخفاقه في الحصول على شهادة أي من الكليتين، فلم يرد عليه إلا بعبارة واحدة وهو مطأطأ الرأس: «يوما ما سيعرفك الناس بأنك والد صلاح جاهين»، وليخرج صلاح الى الحياة في القاهرة فيعب منها وتذخر به وليعمل في البداية في رسم الرسوم الخاصة بصحيفة «القاهرة»، كان يرى أعماله بلا جدوى ولكنها كانت اعمالا ذات قيمه في عيون أصدقائه.

في السنوات الاولى من عقد الخمسينات التحق صلاح جاهين بالعمل في مجلة روز اليوسف، حيث عمل فيها سكرتير تحرير رافضاً الإفصاح عن هوايته في الرسم حتى لحظها الكاتب أحمد بهاء الدين فقرر أن يفرد له صفحة كاملة في المجلة كل اسبوع، وليحترف صلاح جاهين الكاريكاتير تحديداً منذ عام 1955. وفي عالم الكاريكاتير جاءت رسومات جاهين نابضة بمشكلات وقضايا العامة، كانت رسوماته تلخص الاحاديث والمقالات في التعليم والتربية والسياسة والدين والكثير من أمور الحياة، رسم معبراً ومصوراً حال المصريين ببساطة السهل الممتنع، أما علاقة جاهين بالشعر الذي صار فيما بعد أحد أعمدة عاميته، فقد بدأت منذ نهاية الأربعينات حين بدأ في كتابة أشعار كلاسيكية بالفصحى لم يكن يقرأها علي أحد لأنه كان يري أنها غير ذات اهمية، إلى أن ساقته الصدفة في يوم ما إلى قراءة قصيدة بالعامية للمبدع فؤاد حداد الذي لم يكن جاهين يعلم عنه شيئاً في ذلك التوقيت، ولتتغير علاقة جاهين بالشعر ويبدأ في النظر إليه برؤية مختلفة. وليغوص في بحور العامية ويتبوأ مكانة مميزة بين شعرائها، وبخاصة بعد ثورة 23 يوليو(تموز) عام 1952 والتي صارت ملهم جاهين في التعبير عن طموحات ورؤى وأحلام المصريين في الغد الذي لم يأت من يومها.

وعلى قدر التحليق في الهواء و«النط» إلى الأعلى كان الهبوط السريع الذي كاد فيه رأس عم صلاح أن ينكسر لولا بعض من بقايا حب الحياة. فقد جاءت نكسة يونيو ليكون صلاح جاهين أول من يحاسب ذاته التي اتهمها بالمشاركة في خداع الجماهير التي صدقت مزاعم القوة والقدرة على دحر العدو الصهيوني في لحظات، وعندما لم يجد جاهين بداً مما آل اليه حال البلد، عايش الاكتئاب سنوات وسنوات، كان يتحرر منه تارة، ويعود له تارات. وبخاصة بعدما اتهمه البعض بأنه كان لسان الثورة والنظام، وهو ما نفاه زملاؤه الذين كانوا يعرفونه حق المعرفة حتى من اختلف منهم معه، ومنهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي قال في حوار سابق: «لم يكن صلاح جاهين صوتا بسيطا مفرداً، كان مجمع أصوات، كان صوت مصر وصوت البشرية، صوت الجماعة في الواقع وفي الحلم معا».

«سبع صنائع».. هكذا كانت حالة جاهين الذي كانت إبداعاته لا تتوقف عند حد من الحدود، حيث شاغله عشق التمثيل فلم يتردد بالمشاركة بأدوار قصيرة، ولكنها مميزة في عدد من الاعمال التي كانت هي الأخرى علامات في تاريخ السينما المصرية. من أبرزها «شهيد الحب الإلهي» عام 62 و«لا وقت للحب» عام 63 و«المماليك» في عام 1965، لم يمثل صلاح جاهين بعد عام 1967 ولكنه وفي محاولة للخروج من حالة الاكتئاب، كتب للسينما «خللي بالك من زوزو» الفيلم الذي حطم قواعد العرض باستمرار وجوده في قاعات السينما فترة طويلة لم يحققها أي فيلم آخر وقتها، على الرغم من مهاجمة الكثيرين له واتهام جاهين بالإسفاف، ولكنه لم ييأس، مؤكداً أن الفيلم تعبير عن حالة يمر بها المجتمع. بعدها كتب السيناريو لعدد آخر من الافلام منها «أميرة حبي أنا»، «شفيقة ومتولي» و«المتوحشة» وكلها قامت ببطولتها سعاد حسني التي كانت تربطها به علاقة أبوية وثيقة، كما شارك في إنتاج «عودة الابن الضال» مع يوسف شاهين، وليكتب كلمات «ساعات أقوم الصبح قلبي حزين، أطل بره الباب ياخدني الحنين»، وهي الأغنية التي رددتها ماجدة الرومي في الفيلم ولا تزال باقية رغم رحيل صاحبها.