سوق «باب توما» في دمشق يربط الماضي بالحاضر

يفتح أيام الجمعة ويرتاده المتسوّقون ومحبّو الفنون

منظر للسوق الأثري في دمشق (رويتز)
TT

يعد حي «باب توما» وسوقه في شمال شرق العاصمة السورية، من أجمل أماكن التسوق في دمشق، وأكثرها حيوية وتنوعاً. ويقع سوق باب توما في منطقة غنية بالمواقع التاريخية والأثرية، التي تجذب السياح. ويشهد السوق أيام الجمعة، وخاصة في المساء، ازدحاماً لا مثيل له من زوار دمشق من السياح العرب، ومن السوريين القادمين من المدن الأخرى. وتنتشر في هذا السوق المتاجر التي تبيع المنتجات التراثية و«الأرابيسك» (التحف الإسلامية والعربية) والنحاسيات والشرقيات والمنتجات اليدوية العريقة. ولعل أهم ما يميّز هذا السوق، مع أنه حديث العهد نسبياً، إذ أسس في أواسط القرن المنصرم، أنه يشكل الحدود الشمالية الشرقية لمدينة دمشق القديمة. فهو ينطلق من أقدم بوابة دمشقية هي التي أخذ اسمها أي «باب توما». وهذا الباب أو البوابة في الأصل، باب روماني نسب لأحد عظماء الرومان، وعنده كنيسة حوّلت إلى مسجد في ما بعد. وروي أن عمر بن العاص، رضي الله عنه، نزل عليه يوم فتح دمشق. كما يتصل بساحة البوابة الأثرية عدد من الحارات الدمشقية القديمة والأسواق والمواقع والمباني التاريخية. ويقال أيضاً إن القائد الإسلامي الكبير خالد بن الوليد، أقام في هذا المكان، عندما قاد جيش المسلمين ودخل دمشق من جهتها الشمالية. كما تضم منطقة ساحة باب توما جامعاً تاريخياً قديماً، هو جامع الصوفانية الجاري ترميمه حالياً. وبين أشهر حارات وأسواق منطقة باب توما وأهمها، شارع وسوق القشلة وحارة الزيتون، وتشتهر هذه الحارات والأسواق بالبيوت الشامية القديمة، التي حوّل العشرات منها إلى مطاعم تراثية ومقاهٍ، وبعضها يضم صالات عرض فنية. كما ينتشر في هذه الحارات والأسواق، عدد من أشهر ورش تصنيع الآرابيسك والتحف الشرقية، وتصنيع النحاسيات ومتاجرها، ومحلات تحضير وبيع العطور التي تعتمد على الورد والزهور الدمشقية كالياسمين.

* صناعة الأرابيسك

* وفي جولة في هذه الحارات العريقة، وتحديداً في منطقة القشلة التقت «الشرق الأوسط» مع عدد من المصنعين المعروفين للشرقيات والأرابيسك، كان من بينهم المصنع يوسف توكمه جي الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «تخصصت عائلتنا منذ مئات السنين بترميم البيوت الشامية القديمة، وعلى مدى السنين اكتسبنا خبرة وشهرة في هذا المجال، وتوارثنا هذا العمل التراثي اباً عن جد، وإن شاء الله سأورثه لأولادي من بعدي». وأضاف «.. ابني الكبير طالب في الجامعة، لكنه بعد حصوله على الشهادة الجامعية سيتفرغ للعمل معي في الآرابيسك». وأخبرنا يوسف توكمه جي عن حياته في السوق القديم، فقال إنه حالياً يعمل هناك مع إخوانه، ويمتلكون ثلاثة محلات وورش منتشرة بين باب توما والقشلة وحارة الزيتون. وذكر أن التصاميم التقليدية تلاقي اهتماماً كبيراً امتد لخارج دمشق، حتى انه قدّم اعمالاً في دول الخليج العربي ولبنان، وغيرها على الطراز الشامي التقليدي. ايضاً تنتشر في منطقة القشلة محلات لبيع الموزاييك والنحاسيات وتصنيع الحلي الفضية، ويقول سان خوري الذي التقيناه في القشلة: «تعلّمت صياغة الفضة في سوق القباقبية قرب الجامع الأموي، وحالياً أعمل في تصنيع أشكال متنوعة من الحلي الفضية كالحلق (الأقراط) والخواتم النسائية والرجالية، وأضيف لهذه الحلي الفضية الأحجار الكريمة وشبه الكريمة، بمختلف أنواعها الأصلية والمقلدة، وتلقى منتجاتنا من الفضة حالياً، إقبالاً كبيراً بعكس السنوات السابقة». ويعيد حسان السبب في غلاء المصوغات الذهبية بشكل كبير في السنتين الأخيرتين، إلى توجه الشباب إلى الاستغناء عنها والتوجه إلى الفضة.

* القصّاع

* ونتجه إلى سوق باب توما الرئيسي والحديث نسبياً، الذي يخترق منطقة القصّاع، وينتهي بأجمل ساحات دمشق الحديثة التي شيدت قبل حوالي 40 سنةً، وهي ساحة العباسيين التي خضعت أخيراً لأعمال تجميل وتطوير. وبين البوابة الأقدم والساحة الأحدث تنتشر على جانبي الشارع (السوق) المحلات الجميلة بأنوارها الزاهية وواجهاتها الجميلة التي تشدّ الناس إليها، ولعل ما أعطى لذلك السوق شهرة وشعبية إضافية، أنه شهد افتتاح أول مقهى رصيف بدمشق، إذ تفتقر العاصمة السورية لهذا النوع من المقاهي. ساحة برج الروس، وهي ساحة قديمة تاريخية يخترقها سوق باب توما، تعود إلى فترة تيمورلنك. ويقال إنها سميت بهذا الاسم بسبب وضع الفاتح المغولي برجاً من رؤوس ضحاياه المقطوعة في هذا المكان، عندما غزا جيشه مدينة دمشق عام 803 م ليثير الرعب في الناس، ودرجت في ما بعد تسمية هذه الساحة باسم «برج الرؤوس» أو «الروس» بالعامية. ويستمر العابر والزائر للسوق بالسير، ليشاهد بعد ساحة برج الروس، أقدم مشفى أجنبي في سورية مازال يقدم خدماته للمرضى، وهو المشفى الفرنسي، الذي أسس عام 1904، وهو مبنى جميل مشيّد على الطراز الأوروبي ويتميز باتساع مساحته وحدائقه. وبعد هذا المشفى يوجد مبنى آخر تاريخي كان يسمى مشفى فيكتوريا، وكان أول مبنى يشيّد في منطقة السوق التي كانت سابقاً عبارة عن بساتين وذلك عام 1896 أي قبل 112 سنة.

وبعد ذلك تطلّ ساحة العباسيين حيث النهاية الفعلية لسوق باب توما، بعد رحلة تسويقية جميلة تستغرق أحياناً حوالي الساعتين. ولعل كثيرين من زوار السوق وخاصة كل مساء جمعة، يأتون للتنزه ومشاهدة آلاف الناس يتجوّلون في السوق، حتى ليحسب المرء أن سكان دمشق جميعهم في سوق باب توما. والجميل حقاً في السوق أنه عبارة عن حارة واحدة، وباتجاه واحد فقط من بدايته وحتى نهايته، ورغم ما يسببه ذلك من زيادة في الازدحام، فإنه يحقق تواصلاً حميماً بين المتسوّقين والعابرين. ولقد أدركت الجهات المسؤولة عن المرور في دمشق هذه الخصوصية فقررت منذ بضع سنوات منع مرور مختلف أنواع السيارات في سوق باب توما يومياً من السادسة مساءً وحتى العاشرة ليلاً لكي يتاح للزوار السير بحرية في السوق. وتنتشر في سوق باب توما ومنذ سنوات ظاهرة البسطات على رصيفه، وهي تعود لسوريين عراقيين وصينيين وأبناء جمهوريات آسيا الوسطى وغيرهم ممن يأتون إلى دمشق للعمل أو التجارة. وبالرغم من أن البسطات تتسبب بعرقلة للزائرين، فإنها تحظى باهتمام ملحوظ من المتسوقين، خاصةً من الباحثين عن سلع الرخيصة نسبياً، حيث توجد في هذه البسطات مختلف أنواع البضائع الاستهلاكية من مختلف المصادر الصينية والروسية والتركية وغيرها، فتبدو وكأنها سوق داخل سوق.