أمة تحت المراقبة.. الأكثر جرأة وتحدٍ

بانكسي يرسم في ووترلو بعد جدارية حذرت من سلطة «الأخ الكبير»

جدارية بانكسي الجديدة كما ظهرت على مبنى بريد سكوفولد وأحد أعمال بانكسي التي تدعو الى السلام
TT

يسمونه «فدائي الرش»، الذي تنتظر جدران لندن تسللا مفاجئا له يحيلها الى لوحة مثيرة، وربما غالية الثمن ايضا، مثلما ينتظر سكان لندن وعشاق لوحاته ما سيفاجئهم به، من دون ان يعرفوا كيف ومتى. الاسبوع الماضي ظهر الفنان البريطاني بانكسي المثير للجدل، والذي أبقى اسمه الحقيقي مجهولا منذ باشر هوايته في ثمانينات القرن الماضي، في قبو قديم في محطة قطارات ووترلو الشهيرة. ترأس بانكسي مجموعة ضمت اكثر من ثلاثين فنانا في ما اطلق عليه «مهرجان العلب» (نسبة الى علب الرش التي يستخدمونها في لوحاتهم)، بهدف «تحويل نفق قذر مظلم الى واحة جميلة». وخلال ساعات كانت واجهات جدران النفق القذرة المظلمة قد تحولت الى جداريات: كاميرا تنمو على فروع شجرة، رجل مقنع يقطع نفسه بسكين، عامل يقوم برش دهان على رسم لكهف قديم.. وغير ذلك. بعد ثلاثة ايام، غادر بانكسي وفريقه، لكنه ترك مساحات كاملة لجمهور طلب منه ان يساهم بدوره في تغيير معالم النفق.

قبل ثلاثة اسابيع تقريبا، توقف المارة في شارع نيومان القريب من شارع اوكسفورد التجاري الشهير، ممن اعتادوا التوجه صباحا الى أعمالهم، أمام آخر وأكبر اعمال بانكسي، «امة واحدة تحت الكاميرا». صرخة احتجاج اخرى خطت على جدار مبنى بريد «سكوفولد» ذي الطوابق الثلاث، ضد «الأخ الكبير» الذي وضع جميع المواطنين تحت المراقبة الدائمة لكاميرات الديجيتال، وما زال يستورد ويضع المزيد منها في القطارات تحت الارض وفوقها، في الشوارع، في المحطات وداخل حافلات نقل الركاب، في الدوائر المختلفة، في المحلات والأماكن العامة، وفي المتاحف، حتى بلغ الأمر حائط البريد، فاختاره بانكسي لينطقه ويستصرخه احتجاجا. في عمل بانكسي الجديد، تظهر عبارة «أمة واحدة تحت الكاميرا» الى جوار كاميرا حقيقية، يفترض انها كانت تعمل خلال انجاز بانكسي لوحته. إن كان الأمر كذلك، تكون الكاميرا قد ضبطت الفنان البريطاني في لحظة احتجاج لا لبس فيها. لكنها، تكون قد وثقت جرأته ايضا في تحديها، وسجّلت استهتاره بها الى حد تخطيط عبارته الاحتجاجية على مسافة منها تقل عن متر.

ليس هذا وحسب، بل ان من خطها، هو صبي يظهر أعلى نهاية سلم حديدي، وقد تسلقه ليكتب عبارة الاحتجاج بفرشاة دهان طويلة. والى يساره في الزاوية السفلى البعيدة نسبيا، ظهر رجل أمن بصحبة كلبه، مشغولا بالتقاط صورة للصبي خلال عمله وللكاميرا بطبيعة الحال، فيما بدا الكلب الذي ظهر جالسا على مؤخرته، وقد تخلى عن مهمات الحراسة وتبع صاحبه بفم مفتوح على سعادته بمراقبة ما يجري. في الصباح، نجح بانكسي في الحفاظ على عنصر المفاجأة الذي يميز اعماله باستمرار. حوّل الطبيعي المعتاد في جدار البريد، الى غير الطبيعي وغير المعتاد، لافتا النظر الى اكبر وأهم أعماله حتى الآن، ربما بعد لوحاته التي تركها على جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية قبل سنوات.

الى جانب ذلك، اعتمد بانكسي كما في أعماله العديدة الأخرى، على المزج بين رسومه بدهان الرش (سبريه) وعباراته المكتوبة، والعناصر التي يوفرها الجدار. فنقطة الانطلاق في الفكرة كلها هي الاحتجاج على وجود الكاميرا. وهي تحد يقوم على مستويين: الأول يتمثل في انجاز العمل في وجود كاميرا تعمل ويفترض انها تسجل وقائع ما يجري لحظة بلحظة. وإقدام بانكسي على ذلك، ينطوي على تحد كبير، بل واستهتار بوجودها. والثاني، ان تكون الكاميرا قبلت التحدي لكنها فشلت في منع بانكسي من انجاز لوحته، التي ظهرت في الصباح لتشغل بال آلاف المواطنين، او تكون اغمضت عينها الوحيدة وتواطأت مع الفنان نفسه، أو استسلمت له اعجابا بما يقوم به، فلم تكشف سرّه، وفي الحالتين انتصر الاحتجاج، الذي يحذر من الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، بوضع مواطنيها كافة تحت مراقبة دقيقة منذ لحظة خروجهم من بيوتهم لممارسة أعمالهم وحتى عودتهم اليها.

كيف فعل بانكسي ذلك؟.

مشاهدو العرض المفتوح، توقفوا امام اسئلة عدة: كيف تمكن بانكسي من انجاز لوحته ليلا من دون ان يراه أحد، في مكان علقت على جداره كاميرا تعمل على مدار الساعة، على ارتفاع لا تصله الأيدي، ومحاط بسور معدني وباب معدني ايضا يغلق مرآب سيارات في الجهة الاخرى؟ ثم كيف كتب بانكسي عبارته بحروف ضخمة غطت، مع عناصر اللوحة الأخرى، ثلاثة طوابق؟

يطرح البعض افتراضا من شقين: ان يكون عمال البريد وموظفوه قد تعاونوا سرا، خلال الليل، مع بانكسي الى ان انجز عمله، فانسحب الجميع من دون ان يراهم احد، بعد ان ازالوا كل أثر يدل على التعاون. او يكون المعنيون بالأمن ومتابعة الكاميرا على الشاشات الصغيرة داخل المبنى، قد فصلوا دائرتها الكهربائية وتركوا بانكسي وفريقه ينجز لوحته، ثم اعادوا فتح عين الكاميرا في وقت لاحق قبيل الفجر. وإذا صح هذا، يكونون قد جردوا المكان من حمايته الامنية الوحيدة، أي الكاميرا التي تطمح الحكومة في اخضاع الجميع لمراقبتها.

أيا كان المتعاونون مع بانكسي، فإن الواضح في الأمر هو ان الفنان، الذي لا تخلو اعماله من جرأة وتحد وغرابة، قام بعمله خلف شادر قماشي او بلاستيكي ضخم حجبه وفريقه خلال العمل. وقد تمّ سحبه وانسحاب الجميع قبيل الفجر، وأن بانكسي، بدهيا، استخدم سلما مزدوجا مضاعف الطول وربما ثلاثيا.

بقي سؤال اخير يتعلق بالعمل نفسه: هل سيبيع بانكسي لوحته الجديدة «أمة واحدة تحت الكاميرا»، كما باع لوحة بورتوبيللو التي رسمت على جدار بيت في المنطقة بمبلغ زاد على مائتي الف جنيه استرليني؟ الاولى قام المشتري بالتأمين عليها خوفا من ان يطالها تخريب. لكنه واجه مشكلة غير تقليدية، هي نقل اللوحة التي اشتراها وهي على جدار بيت.

حسنا، يقول احد الظرفاء في معرض تعليقه على لوحة بانكسي الجديدة: «أتمنى ان يأتي هذا الفنان الى بيتي ويقوم بتخريب احد جدرانه برسوماته». تمنٍ صعب، أشبه بالحلم بالفوز بأرقام اليانصيب. فبانكسي لا يأتي بناء على طلب، او في موعد محدد، فأحد شروط اعماله هو المفاجأة التي تتضمن بالضرورة اختيار الجدار المناسب للوحة المقبلة.