أطول ماراثون مسرحي في تاريخ العالم

«مصيدة الفئران» لأغاثا كريستي

اللورد ريتشارد اتنبره، الممثل والمخرج الكبير على الخشبة في احتفالات الذكرى الخمسين على عروض مسرحية «مصيدة الفئران» (أ. ب)
TT

إذا قررت الذهاب إلى مسرح «سانت مارتن» الواقع في مركز لندن المعروف باسم الـ«ويست إند»، فستجد نفسك لا محالة وسط عدد من السياح القادمين لرؤية العرض المسرحي الشهير. ولعلك ستلمس أن قدومهم إلى هذا المكان كان بسبب المعلومات التفصيلية المشوقة التي حصلوا عليها عن المعالم السياحية البارزة في هذه المنطقة اللندنية المتراصة بمبانيها العريقة وشوارعها الضيقة الغاصة بالمطاعم والمقاهي والمسارح والنوادي الليلية. فبعد زيارة برج ساعة «بيغ بن» ومبنى البرلمان الباهرين بمعمارهما القوطي، وقضاء يوم ما بين المتحف البريطاني وغاليري الفن الوطني، قد يحين الوقت للذهاب إلى مسرح «سانت مارتن» لمشاهدة عمل مسرحي دخل سجل غينيس الخاص بالأرقام القياسية.

إنها مسرحية «مصيدة الفئران» للكاتبة الإنجليزية أغاثا كريستي. وإذا كانت ملكة صنف الروايات البوليسية قد أبدعت ما يقرب من 80 رواية و160 قصة قصيرة وعدد من المسرحيات المقتبسة من رواياتها، فإنها في هذا العمل المسرحي حققت ما لم يحققه أي كاتب مسرحي في تاريخ العالم.

بدأت هذه المسرحية رحلتها أولا كتمثيلية إذاعية قصيرة في عام 1947 تحت عنوان «ثلاث فئران عمياء» وتستند إلى قصة حقيقية تتعلق بموت صبي يتيم كان في رعاية أسرة مزارعة مع أخيه وأخته. وبعد التحقيق مع الزوجين اللذين كانا يرعيان هؤلاء الصغار بعد وفاة أمهم خلال الحرب العالمية الثانية، صدرت ضدهما أحكام بالسجن. وإذا كان الرجل قد مات قبل إنهاء فترة حكمه فإن زوجته أقامت بلندن بعد إطلاق سراحها وبدلت اسمها إلى مورين ليون واختفى كل اثر لها، حتى بلوغ خبر مقتلها.

ومثل الكثير من مسرحياتها اقتبست أغاثا كريستي «مصيدة الفئران» من قصة قصيرة سبق أن كتبتها. لكن بعد بدء عرضها في مسرح «نيو امباسادورز» ليلة السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1952 اشترطت الكاتبة كريستي ألا تُنشر القصة داخل المملكة المتحدة طالما استمر عرض المسرحية في لندن. بالمقابل منحت حفيدها ماثيو ريتشارد بمناسبة عيد ميلاده حقوق «مصيدة الفئران» كاملة. انتقلت المسرحية يوم 23 مارس 1974 مباشرة إلى مسرح «سانت مارتن» المجاور لـ«نيو أمباسادورز» لتظل حتى يومنا الحالي فيه. لكن الشهرة التي تمتعت بها حولتها تدريجيا إلى جزء ثابت من معالم المدينة. وما ساعد على تحقيق ذلك، مشاركة ممثلين كبار في العروض خلال سنوات إنتاجها التي بلغت الآن خمساً وخمسين سنة، وعزوف سكان لندن عنها مما جعلها شبيهة بمعالم المدينة السياحية الأخرى. ولتحقيق جذب متواصل للسياح يمكنك أن تقرأ على لوحة إعلانات داخل صالة استقبال المسرح قائمة بالسلع المعروضة التي يمكنهم شراؤها: أكواب وقمصان وقبعات وتذكارات صغيرة أخرى تحمل شارة المسرحية وعنوانها. كذلك هناك طقس سنوي يجري خلاله تبديل فريق التمثيل حوالي أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، وآنذاك تشارك البطلة الرئيسية المنسحبة مع التي ستحل محلها في مراسم قطع كعكة «مصيدة الفئران». كل ذلك يرافقه إعلان متواصل عن عدد العروض التي تجاوزت رقم الثلاثة وعشرين ألف عرض في شهر أبريل (نيسان) الماضي. وفي ذكرى مرور خمسين عاما على بدء عروضها شاركت الملكة إليزابيث الثانية في تلك المناسبة حين شارك فيها عدد من الفنانين البارزين، بحضور عدد من الممثلين المسنين الذين شاركوا في عروضها المبكرة.

كان الطابق الأعلى من المسرح منحنيا بشدة إلى الحد الذي يسمح للجميع برؤية المسرح كاملا من دون أن يؤثر الجالس أمامك على ناظرك. لكن المسافة بين كل صف وآخر صغيرة إلى حد كبير يجعلك تظن أن مصمم المسرح، (الذي أنشئ أوائل القرن العشرين)، افترض أن المشاهدين الذين سيجلسون هناك سيكونون بلا سيقان أو أنهم قادرون على فكها وركنها إلى جانبهم. كأن ذلك نوع من التعذيب الذي اشتهرت به تلك المسارح الصغيرة ذات الديكور الداخلي الغني، لكن من دون التفكير براحة المشاهد، اللهم إلا إذا كان على استعداد للجلوس في الطابق الأرضي بعد أن يدفع ضعف السعر.

تنقل المسرحية لنا ردهة استقبال في فندق صغير يديره الزوجان مولي وجيلز رالستون، عصر نهار ظل الثلج خلاله يتساقط في الخارج. وهذا ما كنا نتلمسه من خلال ملابس الضيوف القادمين المغطاة برقائق الثلج. كذلك يظل المذيع مرددا لخبر مقتل مورين ليون في ظروف غامضة.

يحضر إلى الفندق خمسة أشخاص: كريستوفر رين، وهو شخص يتمتع بسلوك غريب ويقترب كثيرا من الزوجة مولي عارضا عليها مساعدته في الطبخ وهذا ما يثير غيرة الزوج جيلز. ويبدو أنه هارب من شيء غامض يرفض الإفصاح عنه، لكنه يجعلنا نشك بتورطه بالجريمة. هناك السيدة بويل العانس التي بلغت سن الكهولة والتي لا يبهجها أي شيء في العالم. نتعرف من سياق الحديث الذي يدور بين الحاضرين أنها هي التي وضعت الأخوة اليتامى الثلاثة في عناية مورين ليون. لكنها بعد قليل تُقتل داخل صالة الاستقبال بعد انطفاء الضوء للحظة قصيرة حينما تكون لوحدها. كذلك نتعرف على الميجور ميتكالف الذي تقاعد من الجيش، وتدور الشكوك حوله حالما يكشف أن والد الصغار الثلاثة كان في الجيش تحت إمرته، عند موت أمهم، وهذا ما أدى إلى وضعهم تحت رعاية أسرة أخرى. كذلك حضرت مس كيسويل، الفتاة الغريبة الميالة للعزلة التي ظلت تتكلم عن تجارب قاسية في طفولتها. وهذا ما يجعل المشاهد يتساءل إن كانت ضمن الأطفال الثلاثة الذين تعرضوا للأذى في طفولتهم، وهل هي هنا سعيا للانتقام؟ الشخص الرابع هو بارافيشيني ويعطي انطباعا من لهجته بأنه شخص أجنبي، وكأنه وضع الكثير من الماكياج لإخفاء شخصيته فيتكون الانطباع أنه قد يكون والد أولئك الصغار الثلاثة، وإنه جاء للانتقام. أما الأخير فهو رقيب الشرطة تروتر الذي يبدأ بالتحقيق مع كل منهم. ويتمكن من إثارة الشكوك حول كل منهم بمن فيهم صاحبة الفندق مولي وزوجها. فهي كم تعرف عنه وكم مضى على زواجهما؟ سنة واحدة. ويأتي إخراج صحيفة «ايفننغ ستاندارد» من جيب معطف الزوج على يد الرقيب تروتر تصعيدا للشكوك. وحسب تاريخ الصحيفة ذهب الزوج جيلز إلى لندن في اليوم نفسه الذي قتلت خلاله مورين ليون.

يصر الرقيب على أن يذهب كل من الحاضرين ليس إلى المكان الذي كان فيه عند سماعه صرخة مولي لدى اكتشافها مقتل السيدة بويل، بل إلى مكان آخر يخص نزيلا آخر. وأن يحضر كل منهم لحظة مناداته فقط. والهدف هو نصب فخ للقاتل الذي أجهز حتى الآن على اثنين ويريد أن يكمل مهمته بقتل شخص ثالث. وهنا نكتشف أنه هو القاتل. إنه جاء لينتقم وهدفه هو صاحبة الفندق مولي التي كانت معلمة أخيه القتيل. كيف لم تبادر لإنقاذه بعد أن بعث لها رسالة يتضرع فيها لإنقاذه. لكنها تخبره أنها كانت مريضة ولم تتسلم الرسالة إلا بعد موت أخيه. وضمن هذا المناخ تنزل مس كيسويل التي تكشف أنها أخت لهذه الشخصية التي انتحلت دور رقيب في الشرطة وهما أخوا المتوفى دينيس أونيل. وتتمكن أخيرا أن تنتزع المسدس من يده وتسلمه إلى الميجور مكتالف الذي اتضح أنه هو المحقق السري.

بعد نزول الستارة وارتفاعها ظهر الممثلون، وتحدث الممثل الذي لعب دور الرقيب تروتر ليسأل الجمهور بعدم الكشف عن سر المسرحية. لكن هل هناك سر يظل مكتوما لأكثر من خمسين سنة؟ خصوصا أن المسرحية منشورة كقصة قصيرة في الولايات المتحدة. أو هي وسيلة أخرى لجذب مشاهدين آخرين. لا تحتل هذه المسرحية موقعا متميزا بين الكثير من أعمال أغاثا كريستي، بل أن يكون وضع كل هؤلاء الأشخاص ذوي العلاقة بالأخوة اليتامى الثلاثة في فندق واحد وفي يوم واحد فذلك أمر عسير على التحقق.

مع ذلك استطاعت كل الطقوس التي ذكرناها أن تحقق خلوداً لهذا العمل وجعله شبيها بكل تلك المعالم السياحية الأخرى: هل يمكن إطلاق تسمية أخرى للمسرحية: مصيدة السياح؟