ألبومات المغول.. فيض من الأفكار ورسوم تنبض بالحياة

في معرض «مرقع» بواشنطن

مجموعة من الجنود يستمعون الى الموسيقى (مكتبة «تشستر بيتي» ـ دبلن)
TT

هل يمكن أن يكون الهدف من بعض أزهى الصور في العالم وأفضلها هو ألا تُرى إلا نادرا؟ حقا، قد تكون هذه الأعمال الرائعة نسجت من وحي خيال فنان نسيَّ أن من سيراها هم البشر! يوحي معرض «مرقع: ألبومات أباطرة المغول من مكتبة تشستر برتي، دبلن» الذي افتتح أخيرا بقاعة ساكلر للفن الآسيوي، بالعديد من الاحتمالات الغريبة. تظهر في المعرض 86 صفحة مطرزة بشكل رائع، صنعت لقصور المغول في شمال الهند في الفترة من 1600 حتى 1650. وقام السير ألفريد تشاتر بيتي بتجميعها في بدايات القرن الماضي. وكان السير بيتي أحد أقطاب التعدين الأميركيين. وكان رجل خير يهوى جمع الآثار ويعشق إنجلترا. وهاجر السير بيتي إليها عام 1911 ونقل مقتنياته إلى آيرلندا، حيث انتهى بها المطاف في قلعة دبلن. وتشير كلمة «مُرقع» إلى الثياب المرقعة التي كان يرتديها المُتصوِّفون، الذين كانوا شخصيات مفضلة للأباطرة المغول. وتستخدم الكلمة أيضا للإشارة إلى الألبومات الفاخرة في هذا المعرض، حيث تظهر صفحاتها ملصقة مع بعضها بعضا كما لو كانت سجل قصاصات. وفي جانب كل صفحة، تجد في المعتاد أحد فنون الخط الرائعة ـ مثل قصيدة تعود للقرن الثالث عشر كتبها الكاتب الفارسي المشهور في القرن السادس عشر مير علي. وهذه النصوص المكتوبة فائقة الروعة تعد جوهر ما في هذه الألبومات. كما تجد صفحة أخرى، لها نفس الحاشية المزخرفة، تعرض رسما ينبض بالحياة لأحد أباطرة المغول أو أحد وزرائه، أو مشهدا شهيرا من التاريخ المغولي أو الأساطير المرتبطة بهم. وقد تجد في إحدى الصفحات المعروضة بهذا المعرض، ملصقات لثلاث صور مختلفة رسمت في بلاد فارس بأيدي ثلاثة فنانين مختلفين من ثلاثة عصور مختلفة ويصاحبها نحت أوروبي تخيلي للقمر. وقد يعتمد أحد الألبومات على أفكار رئيسية قليلة ولكنها تحتمل تأويلات مختلفة، ولكن في أغلب الأحيان، يكون الـ«مُرقع» بمثابة صندوق كنوز يحتوي على العديد من النصوص والصور الرائعة. ويعد هذا المعرض أيضا نوعا من فن الـ«مرقع». وهو يعرض أفضل المخطوطات المغولية التي اقتناها السير بيتي. وهذا يعني أنه ليس مثل معرض «همزاناما» عام 2002، الذي استعار صفحات من كافة أنحاء العالم بغية وضعها في مجلد واحد يوضح ملحمة مغولية عظيمة. ولكن قد ينجح معرض الـ«مُرقع» في الاقتراب من روح الألبومات الستة التي يجمع بينها. ويكون من المستحيل على المرء استيعاب التفاصيل الكثيرة المتفرقة الموجودة في هذه الألبومات: صورة لطائرين، ورسم لمحارب أو أحد الحكماء وصورة أخرى لستائر حريرية منسدلة على سجاد مفروش على حدائق خصبة وحدود متقاطعة للزخارف حمراء اللون وأشكال حروف سوداء داخل إطار آخر من الأزهار ذهبية وزرقاء اللون.

وحتى الصفحة الواحدة التي يبلغ حجمها 11 × 16 بوصة، نجدها تحتوي في الأغلب على الكثير من التفاصيل التي يتعذر استيعابها جميعا، حيث تقع عيناك في بادئ الأمر على الفكرة الأساسية، وبعد ذلك تنتقل إلى العديد من الأحداث المنفصلة، ثم بعد ذلك تظهر الأنماط المختلفة للأقمشة، وكل منها يتمتع بأسلوبه الخاص، وكل ذلك داخل حاشية مزينة جميلة. وكلما تجولت في المعرض، وعشت مع أحد الألبومات، لتنظر في صفحاته ومحتويات كل منها، تجد نفسك تنهل المزيد والمزيد من المعلومات. فأنت تقف في بادئ الأمر على مسافة من المعروضات ثم تقترب مسافة ذراع ثم تقترب أكثر وأكثر لتشاهد المعروضات عبر العدسة المكبرة وترغب في رؤية المزيد. وعندما تحاول أن تستوعب مغزى كل جزء من الصفحة، سواء كان هذا رسما لريشة طاووس موضوعة في أعلى عمامة أحد شيوخ القبائل المغولية أو ثوب أحد المتصوفين، ستعلم أن هناك شيئا غريبا يحدث. ماذا لو كان كل هذا أكثر مما يفترض أن تراه؟ ماذا لو كان الأمر ليس مجرد ما تشاهده، ولكن هناك ما هو أكثر؟

فما تحمله هذه الألبومات، بكل التفاصيل الموجودة فيها والمرتبطة بالأزهار والحيوانات والوجوه الآدمية والأنسجة، قد يكون المقصود منها أن تكون أكثر مما تبدو عليه. لقد صممت لكي تتجاوز حواسنا البشرية بدلا من أن تشبعها. فعلى مساحة أقل بكثير من بوصة مربعة، نجد الكثير والكثير من الرسوم والصور التي يتعذر علينا استيعابها جميعا دفعة واحدة. وللوهلة الأولى، قد تذكرنا هذه الأشياء بالواقعية الأوروبية في نفس الوقت تقريبا، والتي أعجب المغول بها كثيرا. وهناك رسوم أو صور أوروبية يبدو أنها صممت كي تجعل الطبيعة واضحة للعيان. وهناك رسوم صغيرة جدا تعبر عن الطبيعة المدفونة في أغوار ألبومات المغول ـ في أعماق سحيقة تحتاج إلى عدسات مكبرة كي تراها. ويبدو أن هذه الرسومات تريد أن تظهر أن هناك في العالم الكثير الذي لا يمكن للعين الآدمية أن تراه، وأن التفاصيل البسيطة التي يمكن للعين أن تراها ما هي إلا غيض من فيض. وتوحي بعض النقوش في أحد المجلدات بضخامة لا حد لها، حيث تظهر عباءة مرقعة السماءَ، وهناك يظهر رسم للشمس وآخر للقمر. وتحتوي ألبومات المغول على صور للصوفيين الأتراك المعروفين باسم الدراويش، وتهدف رقصتهم الصوفية إلى حالة من الدوار، وبها يبدو العالم وكأنه يتهادى من حولك. هل من الممكن أن تكون هذه الرسومات الموجودة في المرقع تهدف إلى إصابتنا بالدوار أيضا؟ قد يكون! ولا تعرض هذه الرسومات في الأماكن المفتوحة كما هو الحال مع الرسومات الغربية التي تعلق كي يراها الناس. كانت إحدى الصور أصغر شيء في مكتبة شاملة لإمبراطور مغولي، موجودة في ألبوم مع العديد من الصور المشابهة. ولا يمكن النظر إلى هذه الصور كثيرا، وأعتقد أنها قد صممت لهذا الغرض، فقيمتها لا تعتمد كثيرا على أن ترى وأن تكون هناك. وفي الحقيقة، فإن الدليلَ الوحيدَ الذي لدينا عن علاقة أي إمبراطور بأحد المجلدات في مكتبته هو عندما يسجل هذا المجلد وحصل عليه عند توليه العرش، مع العديد من الأشياء الأخرى الثمينة. حقا، إن هذه الألبومات مثل المجوهرات الثمينة التي لا تفقد قيمتها لأنها تكون في الأغلب بعيداً عن أعين الناس. وبالمثل، فلا ضررَ يلحق بما بذله الفنانون في عمل كل بوصة مربعة من هذه الصفحات لأن هذه الصفحات من النادر أن يتم عرضها. حقا، إن المهارة التي استخدمت لعرض كل هذه التفاصيل جديرة بالاحترام شئنا أم أبينا. وتتجلى روعة هذه الألبومات وهذه الصور في أنها ثرية الأفكار لدرجة أنه يصعب على البشر أن يستوعبوها كلها.

* خدمة «واشنطن بوست»