كليوباترا تلتقي زرادشت في روما

الشعر والفلسفة يجتمعان مع الألحان

فيوليتا اورمانا («الشرق الاوسط»)
TT

كانت ليلة من نوع خاص هذا الأسبوع؛ فمن كان يظن أن الملكة الحسناء كليوباترة التي فتنت أباطرة الرومان في مصر ستلتقي من دون موعد مسبق مع «حكيم» الفرس زرادشت في ليلة واحدة عبر ألحان الموسيقى الكلاسيكية في أكبر مجمع للفن في أوروبا؛ وهي حديقة الموسيقى في العاصمة الايطالية. الحفلة الخاصة التي أحيتها المغنية الشهيرة من ليتوانيا فيوليتا اورمانا مع اوركسترا سانتا شيشيليا الايطالية العريقة بقيادة المايسترو الاميركي بنحاس ستاينبرغ كانت حدثا فنيا جمع التاريخ القديم مع الشعر الفرنسي الرقيق في قصيدة «موت كليوباترة» للشاعر الفرنسي بيير فييارد وموسيقى هيكتور برليوز مع كتاب «هكذا تكلم زرادشت» للفيلسوف الألماني نيتشه الذي أوحى للموسيقار ريتشارد شتراوس بتأليف قصيدة سمفونية غامضة بنفس الاسم. وتخللت عزف القطعتين أغنية «نهاية ايزولدا» من اوبرا تريستان وايزولدا للموسيقار الخالد فاغنر (1813 ـ 1883) التي تنافس قصة روميو وجولييت لشكسبير في العواطف الملتهبة والنهاية المأساوية.

كان الموسيقار برليوز (1803 – 1869) يأمل في أن يحوز على جائزة الاكاديمية الفرنسية بروما التي مازالت قائمة حتى اليوم في مقرها في حديقة فيلا بورغيزي حين ألف قطعته العاطفية بطريقة جديدة لم تبهر الاساتذة التقليديين الذين انتقدوه لأن الألحان لم تكن هادئة تلطف من الآلام فعلق قائلا «يا سادتي، من الصعب أن تعبر الموسيقى عن اللطف وأمامنا الملكة المصرية تحتضر بعد أن لسعتها الأفعى». عاشت كليوباترة في أواخر دولة البطالمة الذين خلفوا الاسكندر الكبير باني مدينة الاسكندرية ووزعوا الولايات فيما بينهم فكانت مصر من نصيب بطليموس وارتقت كليوباترة العرش عام 51 قبل الميلاد ثم طمعت في مشاركة يوليوس قيصر حكم روما، لكنه قتل عام 44 قبل الميلاد، لكنها لم تيأس فأوقعت في حبالها ماركوس انطونيوس حين أصبح الحاكم المطلق للنصف الشرقي من الامبراطورية الرومانية. بانتصار اوكتافيوس على انطونيوس عام 31 قبل الميلاد ودخوله الاسكندرية انهارت دولة البطالمة في مصر فانضمت مصر الى الامبراطورية الرومانية بعد انتحار كليوباترة. تصف القصيدة التي غنتها اورمانا بشكل رائع مشاعر كليوباترة قائلة :

انتهى الأمر.. مفاتني لن تصلح أوامر المحتل وضعت مجدي الضائع عند أقدام اوكتافيوس ودموعي قابلها بالرفض وكنوزي غدت بين يديه لا أخاف بئس المصير فروما استعبدت مصر لم يبق لي سوى الليل المظلم فآلهة النيل خانتني موسيقى برليوز نقلتنا من مناظر الاهرامات الشامخة الى أمواج البحر الثائر المحاذي لروما وتصورنا للحظات أن مشاهد التاريخ تمر أمامنا ملتفة بالضباب وأن قلب الامبراطور الروماني القاسي انغلق على نداء الملكة الجميلة ففضلت النهاية على ذل الأسر والإهانة. أما موسيقى «هكذا تكلم زرادشت» لريتشارد شتراوس (1864 – 1949) فتبدأ على الطريقة الألمانية المتميزة بالعظمة وكأن زرادشت يعظ العالم من قمة الجبل وهو لحن درامي آسر استعمله المخرج السينمائي الكبير ستانلي كوبيريك في فيلم «اوديسة الفضاء 2001». أمسك المايسترو ستاينبرغ بزمام الاوركسترا بشكل مؤثر وكأنها مجموعة واحدة بانضباط فائق بعد أن مرت بمشاعر حب ايزولدا للموسيقار والشاعر فاغنر ومشاعرها الفياضة، لأنها كانت عروس الملك انما انتهى مصيرها بشرب دواء ظنت أنه لتهدئة الأعصاب لكن خادمتها أخطأت وأعطتها جرعة من دواء العشق الذي شربه تريستان أيضا فكان مصيرهما الوقوع في الحب، والفكرة أن قدر الانسان يتحكم فيه مهما فعل. نقلتنا اورمانا بحضورها المميز وصوتها النادر الذي سحر جماهير الموسيقى الراقية في اوروبا واميركا واليابان في السنوات الأخيرة الى عالم رمزي انفعالي يتجاوز الواقع المادي الحديث ويثير الأحاسيس الدفينة لدى كل العشاق. ليلة خاصة فعلا تبقى في مخيلتك عبارة ايزولدا «أبكي من السعادة».