علي النعيمي: قصة الحلم السعودي

الرجل العصامي الذي قضى 61 عاماً في مجال البترول يتدرج في الوظائف من القاع إلى القمة

الوزير علي النعيمي في لحظة ضاحكة («الشرق الأوسط»)
TT

قبل أربعين عاماً كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، (24 فبراير/ شباط 1968) مقالاً عن الفتى البدوي الذي (تدرّج طفلاً يجوب مع أفراد قبيلته الصحارى الشاسعة التي تكوّن معظم أراضي السعودية)، وعمل صغيراً (مراسلاً في أحد المكاتب)، حتى تمكن من (أن يشق طريقه في عالم صناعة الزيت بكل جدارة واستحقاق).

ولو قدر لأحدهم أن يكتب عن (الحلم السعودي) الذي يداعب خيال آلاف الشباب والشابات، فسوف تصبح سيرة الوزير العصامي علي النعيمي مثالاً لصورة الحلم السعودي، الذي يقوم على العمل والالتزام والكفاءة ويتحقق بالجدارة.. هذا الحلم الذي يستهوي الباحثين عن الفرص في أراضي الأحلام حول العالم، هو نفسه الذي أصبح مع علي النعيمي حقيقة. فهو الرجل الذي تربع على عرش النفط بعد أن عركته التجارب وطحنته مرارة العمل، ولم ينزل بـ(البرشوت) لأي منصب مرموق وصل إليه.

حين ولد الفتى البدوي الخجول، علي ابراهيم النعيمي، في عام 1935، كانت قد مضت أربع سنوات فقط على تحميل أول شحنة من الزيت الخام تصدرها السعودية على متن ناقلة للعالم الخارجي في الأول من مايو (أيار) 1939، إيذاناً بعصر جديد، ومنذ ذلك الحين اقترن اسم علي النعيمي بصناعة النفط وتدرج فيها من القاع إلى القمة..

وكان محظوظاً بقدر ما كان مثابراً، وهو يطوي صفحة شظف العيش التي لازمته طفلاً، بدخوله مدرسة الجبل أولى المدارس التي بنتها ارامكو في الظهران، وظلّ يتذكر أول يوم له في مدرسة الجبل في عام 1945: (رأيت ذاك المعلم – الأميركي - بلحيته الكثة الحمراء يشير إلى السبورة، والجميع يصيح this is a fox، فقلت مثل قولهم، وتلك هي الطريقة التي بدأ بها الجميع تعليمهم).

بعد عامين، ولج عالم الشركة النفطية الأكبر في العالم، حيث لا يوجد في سجل الشركة حتى اليوم وربما في سجل شركات أخرى تاريخاً في الخدمة يماثل التاريخ الذي سطره علي النعيمي، فقد التحق بصناعة النفط حين كان عمره 12 عاماً، وبدأ مراسلاً براتب يقل عن الدولار في اليوم، وحين أصبح أول سعودي يترأس شركة ارامكو كان قد أمضى 48 عاماً في الشركة، وهو اليوم يطوي 61 سنة من خدمته في قطاع النفط والطاقة.

البدوي الكتوم، الذي لا يحبّ الأضواء، ويتحاشى الصحافة حدّ النفور، كان طموحاً حدّ الخيال، فالأيام الصعبة التي قضاها مراسلاً فطباعاً على الآلة الكاتبة، فموظفاً في ضبط الحسابات، وشؤون الموظفين، لم تشبع نهمه، ولم تلبِ رغبته، كما لم يكن يرضيه مجرد الحصول على وظيفة تدر عليه دخلاً، ففي الخمسينات، وتحديداً ما بين 1956 و1963، اشترك في برنامج التدريب العالي للشركة، وابتعث أولاً إلى الكلية الدولية في بيروت، ومن ثم الجامعة الأميركية في بيروت، وانتقل منها إلى جامعة ليهاي بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، حيث حصل على شهادة بكالوريوس في الجيولوجيا عام 1962.

وفي سنة 1963 نال درجة الماجستير من جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا في الهيدرولوجيا «علم المياه الجوفية» والجيولوجيا الاقتصادية، وبعد عودته إلى السعودية عمل هيدرولوجياً وجيولوجياً في إدارة التنقيب حتى عام 1967، ثم عُيِّن ناظراً لقسم الإنتاج في بقيق عام 1969. وفي عام 1975 انتخب لمنصب نائب رئيس ارامكو للإنتاج وحقن الماء، وفي عام 1977 رأس شركة أرامكو لما وراء البحار لمدة شهرين، تلاها في يوليو (تموز) 1978 أصبح نائبا أول للرئيس لشؤون عمليات الزيت. وفي 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1983 عُيّن أول رئيس سعودي لأرامكو، وفي 1995 عُيّن وزيرا للبترول والثروة المعدنية ورئيسا لمجلس إدارة أرامكو.

طوال تلك الفترة، كان علي النعيمي هو نفسه الموظف الذي أرسى مع زملائه تقاليد العمل، وثقافة الإنتاج في شركة ارامكو التي تقوم على الانضباط والالتزام وتكون ما يصطلح عليه بـ(ثقافة ارامكو)، هذه الثقافة التي تتجسد بشكل كامل في الوزير علي النعيمي، الذي ينطبق عليه بشكل واضح مبدأ (الجدارة) في العمل.

كان عصامياً، فليس في تاريخه الوظيفي مكاناً لـ(الواسطة)، كما كان منضبطاً حتى أن موظفيه كانوا يشاهدونه بلباس الرياضة يجلس على مقاعد الانتظار في المركز الصحي بالظهران ينتظر دوره للدخول الى العيادة. وبالإضافة إلى الإصرار، فإن علي النعيمي الذي يحب العمل بروح الفريق، حاسم جداً في قراراته، ويقول بعض مستشاريه أنه رغم ما يبدو عليه من تواضع وخجل فإنه (صاحب قرار)، على الرغم من انه يخضع معظم قراراته للنقاش والاستشارة، وربما بسبب هذا السلوك كانت السنوات الثلاث عشرة التي قضاها وزيراً للنفط أكثر الفترات ازدهاراً في العلاقة بين شركة ارامكو ووزارة البترول.

كذلك فإن النعيمي الذي ورث حقبة مضطربة في أسواق النفط، عمل على إبعاد منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) عن التجاذبات السياسية، وحقق نجاحاً باهراً حين قاد توجه المنظمة للعمل بشراكة كاملة لمصلحة دولها وشعوبها، وتحييد النفط عن الصراعات والتطورات السياسية، هذا النجاح مكّن الأوبك من أن تحقق قفزة في الإنتاج تستطيع من خلاله تعويض النقص في الإمداد، من دون أن ينعكس ذلك صراعاً بين المنتجين، وسط أحداث سياسية خطيرة، ومكّن هذه الدول من أن تحافظ – رغم العقبات – على سعر مغرٍ للبرميل.

وعلي النعيمي قارئ ومثقف، ومستشاروه يقولون إنه (موسوعة) في الثقافة النفطية، لكن أحداً منهم لا يتمكن من فكّ ألغاز العلاقة الباهتة بين النعيمي والصحافة، فالرجل الذي يتحاشى الإعلام، يعرف جيداً أن أي تصريح له من شأنه أن يهزّ أسواق النفط من دبي إلى نيويورك.

قبل ستين عاماً، حين كانت أرامكو تدب فوق هضبة الظهران، كان هناك فتى صغير السنّ التحق للتو بأعمال الشركة يلف (غترة) بيضاء على رأسه ويلبس بنطالاً رثاً، وفي لفح الهجير، ساق الفتى خطاه نحو (الكامب) حيث يستريح الموظفون الأميركيون، ولفت انتباهه وجود الماء المثلج، فمدّ يده لكأس من الفلين وبدأ يشرب.. وعندها لمحه المفتش، وطلب منه المغادرة، لأن هذا المكان مخصص للمهندسين، وليس للعمال. وبإصرار سأله الفتى، ومتى عساي أن أتمكن من دخول هذا المكان؟ فقال له المفتش الأميركي: إذا تعلمت وتدربت واصبحت مهندسا..! ومنذ ذلك الوقت، أصرّ علي النعيمي على أن يقهر المستحيل حتى يحقق الحلم..