عودة الروح إلى الثقافة العراقية

للمرة الأولى كتاب وفنانون من الداخل والخارج تجمعهم «المدى» في بغداد والبصرة

تحدى الجمهور في اسبوع «المدى»
TT

ما أن تراجع العنف قليلاً، حتى تقدمت الثقافة العراقية. وهذه المرة ليس من خلال المؤسسات الرسمية شبه الغائبة، منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، فوزارة الثقافة العراقية ما تزال من دون وزير منذ أكثر من سنة، لأنها «محجوزة لجبهة التوافق» التي ما تزال خارج الحكومة، حسب نظام المحاصصة الطائفية التي ترتدي لباساً سياسياًً. وفي كل الأحوال، انقلبت المعادلة الثقافية في العراق تماما، كانقلاب المعادلة السياسية. وإذا كان المثقفون العراقيون في السابق لا يستطيعون حتى إقامة أمسية شعرية أو قصصية من دون موافقة الجهات المعنية، أو واجهاتها الثقافية، كاتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، أو يكتبون حسب «توجيهات الحزب والثورة»، فهم الآن أحرار في ما يفعلون.. أو لا يفعلون.

من المؤسسات الثقافية الأهلية الفاعلة الآن، وتكاد تكون الوحيدة، هي مؤسسة المدى، التي يرأسها فخري كريم. وقد تأسست «المدى» قبل سقوط النظام بسنوات، وكان مقرها دمشق. وبعد عام 2003 انتقلت إلى بغداد، مع فتح فروع لها في أربيل وبيروت والقاهرة. وهي تعمل الآن على فتح فرع لها في العاصمة الأردنية. وتنظم المؤسسة مهرجانات ثقافية سنوية، بما فيها معارض للكتاب، وفعاليات اسبوعية تعرف بـ«نهارات المدى»، تتضمن قراءات شعرية، وجلسات نقدية، وعروضاً مسرحية.

ومهرجانها الحالي، الذي بدأ في البصرة قبل أيام، بعد انتهاء فعالياته في بغداد، ويستمر لأسبوع، هو السادس لها. وكانت المهرجانات الثلاثة الاولى قد عقدت في العاصمة السورية. أما الأخيران، ففي عاصمة كردستان العراق.

يقول فخري كريم عن مجازفة تنظيم مهرجان ثقافي متنوع، هو الأول من نوعه في بغداد والبصرة: «المدى وهي تنتقل إلى بغداد تستعيد لحظة توهجها الأول.. والمدى إذ تدشن اسبوعها الأول في بغداد، وسط شظايا القوة الباطشة المتوحشة، ترتقي بالمرتجى والمؤمل، وهي تتلمس نبض الناس، وهم ينهضون، وتتبع حركتهم وهي تتحدى، وتتجرأ لعلها تنتفض على آخر مخاوفها». ويبدو أن بغداد والبصرة انتفضتا على آخر مخاوفهما فعلاً. فمن كان يتصور، قبل أيام قليلة فقط، أن تعود الموسيقى ولوحات الرجال والنساء الراقصة إلى مسارح هذه المدينتين المنكوبتين، ليس بالانفجارات الدامية العمياء فحسب، وخاصة في بغداد، بل بفرض أنماط عيش معينة شبه طالبانية. وهذا ما حذر منه ضيف شرف المهرجان، الكاتب والباحث الإسلامي اللبناني هاني فحص بقوله: «خيار الوسطية والاعتدال وهو ما يجب ان نلزم الآخرين به، وان يبقى التعدد العراقي محكوما بالوحدة الوطنية، على اساس منظومة من القيم والأفكار وغلبة الحوار على السجال».

وقبل البصرة بأيام قليلة، كان هناك زحف حقيقي على المسرح الوطني ببغداد، حيث فعاليات اسبوع المدى، من قبل فتية وشباب ونساء شكلوا حوالي 80 بالمائة من الجمهور المتعطش، الذي يردعه العنف من التوجه منذ ساعات الصباح الاولى إلى قاعة المسرح الوطني ببغداد، مجتازا الإجراءات التفتيشية المتعبة، لكن الضرورية، ولم تنجح «اللاصقة»، التي انفجرت بالقرب من البوابة الرئيسية في إيقاف تدفق الشباب والنساء، بل ازداد الحضور حضوراً في صباح اليوم التالي للانفجار، في عملية تحد كبيرة، ليست ثقافية فقط بل سياسية واجتماعية. وما ضاعف هذا التحدي، إن المعارك كانت ما تزال ضارية في الجبهة الشرقية من بغداد.

هذه هي الميزة الاولى لهذا المهرجان، وكانت من الفعاليات المهمة، «مواجهات المهرجان»، إذ تمت استضافة عدد من المسؤولين الكبار ليواجهوا وجهاً لوجه جمهوراً عريضاً، لم يتجاوز متوسط أعماره الخامسة والعشرين، يمطرهم بأسئلته المحرجة، بعيداً عن الغرف المغلقة حيث المؤتمرات الصحافية، المعد لها سلفاً. لقد كسر صاحب مؤسسة «المدى» بوابات المنطقة الخضراء، وأخرج بعض القابعين فيها إلى حيث الشارع العراقي، بمراهقيه وصبيته، ونسائه الشابات، السافرات والمحجبات.

كان من هم المهرجان أيضاً، أن يذكر الجمهور الشاب بماضيه الثقافي، الذي قد لا يعرفه جيداً، وأن يكرم هؤلاء الذين صنعوا هذا الماضي، إنسانياً وجمالياً، وساهموا في إيصال الثقافة العراقية إلى ما وصلت إليه، لكنهم لم يعرفوا سوى الإهمال والنكران والسجون والمنافي. وكان أول المكرمين المغنية عفيفة اسكندر، مغنية الملوك في الخمسينات، والمطربة الشعبية الاولى في الستينات والسبعينات. لكن معشوقة بغداد، وهو اسم الفيلم الذي عرض عنها، جاءت هذه المرة، من بيتها المتهالك في أحد أزقة بغداد القديمة، غائصة في كرسيها المتحرك، وهي تغص بالدموع. إنها تكرم للمرة الاولى في بلد لم يعرف تقاليد التكريم بعد. وكرم المهرجان فائق بطي، مؤرخ الصحافة العراقية، الذي قضى في المنفى أكثر من ثلاثين عاما والملحن محمد جواد أموري، أحد آباء الأغنية العراقية الحديثة، وسامي عبد الحميد، الذي يحمل على ظهره خمسين عاماً من التمثيل المسرحي، وصاحب «المملكة السوداء» القاص محمد خضير، الذي لم يبرح البصرة يوماً، والشاعر والفنان صادق الصائغ، الذي عاد بعد 2003 إلى العراق بعد منفاه الطويل في بيروت وتشيكا ولندن.

لكن الغائبين المكرمين كانوا كثيرين أيضاً: الشاعر والخطاط محمد سعيد الصكار، المريض في باريس، التي استقر فيها منذ نهاية السبعينات، والشاعر الشعبي الاسطوري مظفر النواب، الذي يصارع المرض في دمشق، والذي لم ير العراق منذ السبعينات، ومحمود صبري، أحد رواد الفن التشكيلي، ومنظر «واقية الكم»، الذي لا يكاد يعرفه أحد غير المختصين. إنه الآن في منتصف الثمانينات، ولم ير العراق منذ الخمسينات. وكان هناك فيلم عنه صور في مقر سكنه في براغ، للفنان قتيبة الجنابي، بعنوان «عكس الضوء»، وعرض فوتوغرافي للفنان نفسه بعنوان «عالم محمود صبري»، وبعد غياب عشرين سنة، عاد فاضل عواد ليذكرنا بأغاني السبعينات، وكان حاضراً أيضاً المجدد في أغنية السبعينات حسين نعمة، وأنوار عبد الوهاب الغائبة منذ بداية الثمانينات.

وكان المسرح حاضراً أيضاً. الرائد المسرحي سامي عبد الحميد استذكر رائداً روائياً هو غائب طعمة فرمان، الذي رحل في منفاه الطويل في موسكو، عبر «عودة غائب»، وهي مشاهد درامية مستوحاة من أعمال فرمان الكثيرة، وخاصة «النخلة والجيران». لقد عاد فرمان، على طريقته الخاصة، إلى بغداد التي كتب عنها أجمل روايته، وظل يقتات ذكراها في منفاه الذي امتد حوالي أربعين عاماً. ولكنه سرعان ما يغادرها، فهي ليست بغداد التي عرفها!