«الرجل العنكبوت» مهدد بالسجن في نيويورك بعد تسلقه مبنى «التايمز»

ارتقى 70 برجاً بيديه العاريتين وأمنيته أن يتسلق «برج العرب» في دبي

«الرجل العنكبوت» يحبس أنفاس المتفرجين («الشرق الأوسط»)
TT

يسمونه «الرجل العنكبوت» لأنه قادر على أن يتسلق أعلى المباني وأشهر الأبراج في مختلف بلاد الدنيا. لكن حظ هذا الفرنسي العنيد مع رجال الشرطة، ليس على ما يرام. فقد مثل أمام القاضي في نيويورك، قبل أيام، بتهمة عرقلة النظام في مكان عام، وتعريض حياة الآخرين للخطر. والسبب هو أنه تسلق الواجهة الزجاجية لمبنى صحيفة «النيويورك تايمز» بدون إذن أصحابه.

كان يمكن لهذا المغامر أن يسقط على رأس أحد المارة الذين تجمهروا وقطعوا حركة المرور لكي يتفرجوا عليه. وانتهى الاعتقال بالافراج عنه مقابل كفالة مالية قدرها 2000 دولار، في انتظار المحكمة التي قد تصدر حكماً بسجنه مدة تصل الى عام واحد.

يبلغ الرجل العنكبوت، واسمه ألان روبير، الخامسة والأربعين من العمر. وهو لا يستريح للجلوس هادئاً على الأرض ولا يجد متعته سوى في تسلق المباني بدون أدراج.. بيديه العاريتين. وهناك في قائمة انجازاته.. عشرات الكاتدرائيات والفنادق والأبراج التي تمتد من أبو ظبي الى نيو مكسيكو.

قبل عامين، ألقت ألشرطة المكسيكية القبض على المغامر الفرنسي حال انتهائه من تسلق قمة مبنى شاهق في العاصمة نيو مكسيكو. لقد كان العساكر ينتظرونه فوق السطح لكي يقتادوه الى التحقيق بتهمة القيام بعمل يعرض الأرواح للخطر. أما الموظفون في المبنى المؤلف من 23 طابقا فكانوا يعملون وراء مكاتبهم عندما شاهدوا «عنكبوتا» في حجم رجل متوسط القامة، طويل الشعر، يتسلق النوافذ من الخارج بمنتهى السهولة، وكأنه يسير على أرض مستوية. وفي الطابق الثاني عشر كان موظفو إحدى الشركات في اجتماع عمل. ولما شاهدوه ملتصقا على النافذة تصوروا أنه من عمال النظافة. لكنه لوّح بيده مسلماً عليهم، واختفى صاعداً إلى الطابق الأعلى.. من دون حبال أو شبكة سلامة.

وألان روبير ليس بالغريب على منطقة الخليج، فقد جاء إلى هذه البلاد، وتسلق مبنى بنك «أبوظبي الوطني» أمام أنظار مائة ألف متفرج وقفوا في الأسفل. وقال فيما بعد إنه كان يراهم مثل النقاط السود الصغيرة أو كالنمل في قاعدة البرج. وهو ما زال يعتبر ذلك العمل من أهم إنجازاته في حياته، التي كانت عبارة عن عمليات تسلق متواصلة.

يسافر الناس في أرجاء العالم لكي يدخلوا المتاحف والكاتدرائيات ويتفرجوا على المباني الحديثة والجسور المعلقة، أما هو فيسافر لكي يتسلق كل تلك الصروح من الخارج.. لأن الداخل لا يستهويه. لذلك أطلقت عليه الصحافة لقب «الرجل العنكبوت» نسبة الى بطل فيلم بهذا الاسم. ففي طفولته، كان ألان روبير يحلم بأن يسير على خطى أبطال سمع عنهم وقرأ قصصهم في الصحف. مثل «بوناني» و«ريبوفا» و«ديسيزون». كان هؤلاء بالنسبة إليه رجالاً أحراراً، لأنهم تمكنوا من تحقيق مغامرات يخشى الآخرون الاقدام عليها.

ولد الرجل العنكبوت في صيف 1962 في مدينة «ديجون» الفرنسية الشهيرة بأنها تنتج ألذ صلصة خردل في العالم. وهو أدرك منذ سن المراهقة بأنه لن يكون في قامة العمالقة. فقد كان طوله لا يزيد على 160 سنتمتراً ووزنه 50 كيلوغراماً فقط. وهو ما زال على تلك الحالة على الرغم من تجاوزه الأربعين. كان همّه منصباً في التفكير بالاستفادة من قامته الضئيلة في بلوغ أحلامه الكبيرة. وكان يمكن له أن يعمل «جوكياً» في سباق الخيل. لكنها مهنة لا تحقق الشهرة له، بل للحصان الذي يمتطيه. وهكذا قرر أن يدخل مدرسة لتعلم تسلق الجبال. ولما أنهى الدراسة صار مدرباً لهذه الرياضة، يكتب في خانة المهنة أنه «متسلق وحيد».

راقبت الأسرة طموحات الابن الكثير الحركة. ولم تكن نزوعاته تثير ارتياحها. وكان قد تعلم التسلق بالخفية، ولم يقل شيئاً لوالديه اللذين كانا قد تركا «ديجون» وانتقلا للسكن في مدينة «فالنسيا» واستأجرا شقة في الطابق الثامن من إحدى العمارات.

يقول: «عندما كنت أنسى مفاتيح الشقة فإنني كنت أتسلق المبنى بكل بساطة، وأدخل على أهلي من النافذة». لذلك اضطر الأهل إلى الامتثال لرغبة الابن، وسمحوا له بالمشاركة في سباقات تسلق الجبال. ومن قمم الجبال انتقل ألان روبير الى تسلق أي شىء. وكأن هناك جاذباً من المغناطيس يسحبه رغماً عنه، ويجبره على الزحف العمودي فوق جدران العمارات.

في لقاء معه في باريس قال للصحافيين ضاحكاً: «لست مجنوناً ولا استهتر بحياتي. فأنا متزوج ولي ثلاثة أبناء. لكني أعشق المخاطر المحسوبة بدقة، وأحب السيطرة على مشاعر الخوف التي يشعر بها كل إنسان، وهو معلق بغصن يابس في قمة جبل، ومن تحته الهاوية».

صارت مهنته التي يعتاش منها هي تسلق المباني والأبراج، من دون تأمين على الحياة أو شبكات حماية، بل من دون حبال. أي من دون أن يكون له الحق في أي خطأ، لأن الخطأ قاتل. أما كيف يكسب قوته من هذه المغامرات، فذلك لأنه جعل من نشاطه شيئاً يشبه العمل التجاري. فهو يتعاقد مع شركات إعلانية ويرتدي ثياباً رياضية تحمل أسماء علامات معروفة ومرغوبة من الشباب، كما يتفق مع محطات تلفزيونية ومع وكالات أنباء ومصورين لكي ينقلوا وقائع كل مغامرة. وهناك حفلات تسلق «مبرمجة» ومنقولة على الهواء مباشرة. مثلما أن هناك مغامرات «مختلسة» يقوم بها من دون سابق إنذار.

وبسبب هذه المغامرات غالباً ما ينتهي ألان روبير في أقسام الشرطة التي تحرر له محضراً، ثم تفرج عنه لأنه لم يؤذ أحداً، ولم يتسبب في أضرار للمباني ولا للساكنين فيها. وهو في الحقيقة لا يتضايق من إلقاء القبض عليه، بل يزعل إذا لم يحدث ذلك، لأن المشهد لا يكتمل ويأخذ أبعاده الدرامية، إلا عندما يلتقط له المصورون صوراً وهو مكبل بالقيود وجالس في سيارة للشرطة بحراسة رجلين شديدين.

يعرف ألان أن ليس من حقه أن يرتكب أخطاء في عمله الغريب هذا، وأن الخفة صفة لطيفة لعملية التسلق، لكنها قاتلة إذا تسللت إلى العقل، وأغرت صاحبها بالتمادي في تعريض نفسه للخطر. وفي بداية حياته المهنية كان يتسلق الجبال وهو مربوط بالحبال. ولما أتقن الحركات صار يتسلق بلا حبال. وهو لا يحب أن يكون في قافلة من المتسلقين، بل يصل إلى القمم مفرداً لكي يخطف الأضواء وحده.

لكن رياح الرجل العنكبوت لا تجري دائماً كما تشتهي سفنه، فقد حدث أن ارتكب خطأ كلفه الكثير. كان ذلك في عام 1982 عندما سقط من ارتفاع 15 متراًَ على رأسه ودخل في الغيبوبة لمدة خمسة أيام، مع تصدعات في الجمجمة والأنف وكسر في المرفق والحوض وكعب القدم. وكان تشخيص الأطباء أن هذا الرجل لن يتمكن من معاودة التسلق بعد الحادث. لكن كسور الجسد تلتئم، خصوصا إذا كانت الروح من النوع المقاوم والمتفائل. مع هذا سبّب له الحادث دواراً مزمناً بسبب خلل في الأذن الداخلية، لذلك قرر طبيب الضمان الاجتماعي أن ألان روبير يعتبر معاقاً بنسبة 60 في المائة.

قام الرجل العنكبوت من الفراش وعاد الى التسلق وحقق أعلى مستوى في اللياقة. وقد كسر الحادث آخر حاجز من حواجز الخوف لديه، فانطلق يتسلق الجبال ويحوز الجوائز الرفيعة ويحقق الرقم العالمي في مصاعب التسلق الانفرادي. كما صارت هناك شركات تعرض عليه أن تتولى تمويل إنجازاته وتصويرها مقابل الدعاية لها. ووقّع عقداً مع شركة «سكنور» التي أنجزت فيلماً وثائقياً عنه. وفي عام 1994 قام بتسلق أول برج معماري في شيكاغو، الأمر الذي فتح أمامه هواية تسلق المباني السكنية والصروح التاريخية في مدن العالم.

لم تكن هذه «هواية» في الحقيقة بقدر ما صارت هاجساً لا فكاك منه، وهي قد أتاحت له زيارة بقاع عديدة من العالم، كما أجبرته على أن يدخل مراكز الشرطة في كبريات المدن. والتهمة واحدة: القيام بمخاطر غير مأذونة. وكان دائما ما يخرج بعد دفع غرامة بسيطة لكي يتصل بزوجته وأولاده. ويقول لهم: «أنا بخير.. شكراً للسماء، لإنني في السجن ولست في المستشفى».

وبفضل هذه «المهنة» تعرف الرجل العنكبوت على أصناف عديدة من البشر، من الزبالين إلى الملوك، ومن سكان أحياء الصفيح إلى شاغلي الشقق الفخمة في نيويورك. ولهذا قرر أن يدخل ميدان العمل الانساني، وأن يتسلق «من أجل الترويج للقضايا الكبرى». والناس لا تعرف أنه عندما تسلق أعلى برج في العالم عام 1997 في كوالالمبور، فإن ذلك كان لهدف انساني. فالشهرة التي تحققت له دفعت بمؤسسة «الصباح» في بورنيو، الى أن تطلب إليه تسلق برجها، وجاءت له بالموفقات اللازمة من السلطات المحلية في أندونيسيا. وكانت النتيجة حضور 15 ألف شخص لمعاينة الاستعراض وجمع 150 ألف دولار للمؤسسة الخيرية.

وفي بلده، فرنسا، لم يبق برج أو صرح تاريخي «يعتب عليه». لقد تسلق برج «مونبار ناس»، أعلى مبنى في باريس (210 أمتار) في عز الشتاء. وكانت الريح المتجمدة تضرب وجهه وتنفخ ثيابه، كانت تلك واحدة من أصعب عملياته. وفوجئ، وهو في منتصف الرحلة، بنافذة تفتح وبيد تمتد إليه بقنينة ماء. وتمكن من بلوغ قمة المبنى بعد ساعة وعشرين دقيقة. وفي هونغ كونغ لم يأخذ الأمر منه أكثر من 25 دقيقة لتسلق البرج الذهبي. وقد أطلق عليه الصينيون لقب «بروس لي التسلق».

لكن أشهر عملياته هي من دون شك، تلك التي نفذها عام 1996، قبل انتصاف رأس السنة. لقد انطلق متسلقاً الضلع الغربي من برج «إيفل» في الحادية عشرة والربع ليلاً. وكان هدفه أن يصل إلى القمة عند انتصاف الليل وولادة عام جديد. وبسبب انخفاض درجة الحرارة اضطر، للمرة الأولى في حياته، إلى ارتداء قفازات مزودة ببكرات تسحب الأثقال. ولما حقق الهدف قال للصحافيين: «إن هذا البرج، في نهاية المطاف، ليس سوى سلالم حديدية».

في السنة التالية تسلق برج «سنتر بوينت» في مدينة سيدني الاسترالية. ويبلغ طوله 330 متراً. وقد استخدم فيه، للمرة الأولى، إجراءات للحماية، لأن البرج يتألف من الزجاج الصقيل، وليس فيه سوى بضعة طوابق في قمته. وهكذا صعد بواسطة الحبال الحديدية كمرحلة أولى، لكن رجال الشرطة استوقفوه وهو على ارتفاع 150 متراً من الارض واقتادوه إلى السجن، حيث جرى احتجازه لمدة 24 ساعة. وأحيل بعدها إلى المحكمة التي حكمت عليه بغرامة قدرها 1500 دولار.

وفي رصيد الرجل الفرنسي العنكبوت 70 برجاً حتى الآن، منها دار الأُوبرا في مدينة سيدني الاسترالية، والبرجان التوأمان «بتروناس» في كوالالمبور. وهو المبنى الذي كان الأعلى في العالم. لكن الشرطة «خطفته» من إحدى النوافذ على ارتفاع 340 متراً. كما تسلق مبنى «سينجوكو» في طوكيو ونال مقابل ذلك «علقة» من الشرطة، وسجناً لمدة 23 يوماً. لكنهم أخلوا سبيله بعد خمسة أيام بفضل تدخل السفارة الفرنسية.

ويبقى أجمل إنجازات الرجل العنكبوت، صعوده إلى قمة المسلة الفرعونية في ساحة «الكونكورد» في باريس، ليلة انبثاق الألفية الثالثة. لقد أرادها رسالة سلام إلى العالم. لذلك علّق على ظهره صورتي الدالاي لاما وتشي جيفارا. ويبقى في نفس ألان روبير «شيء من دبي» على غرار ذلك النحوي الذي «مات وفي نفسه شيء من حتى». إن امنيته أن يعود الى شواطئ الخليج لكي يتسلق «برج العرب»، أحد أجمل مباني الفنادق في العالم. أليست هناك جهة عربية تتطوع لاحتضان هذه المغامرة تحت شعار السلام في المنطقة، مثلاً؟