ألقاب عائلات فوق رف التاريخ

تحيي فن «النقورة» والتندر.. وتثير محبة الناس وسخطهم

بعض الأسماء والألقاب قديمة قدم التاريخ (أ.ب)
TT

ماذا لو كان لقب عائلتك: الجحش، أو البغل، أو البقري، أو الفار، أو الغراب.. وغيرها من الألقاب غير المستحبة، سواء كانت على أسماء الحيوانات أو الطيور، أو السمك مثل: البلطي، والبوري، والقرموط.. هل ستفكر في تمزيق هويتك، أو حذف اللقب، والتحايل عليه مكتفيا باسم الأب والجد؟!.

كنا نتندر على صديقنا الشاعر المرموق، ومن لقب عائلته «كنك». وبحكم السجع والقافية، كنا نناديه بلزمةٍ ظلت لسنوات طويلة «يا كنك.. إن أمكنك». أو ندعوه بحكم العادة، والقهوة السادة إلى قراءة الفنجان. وكان حين يفور ويحتقن وجهه بالغضب نطبطب على كتفيه ونقول: «اقلبه على الوش التاني».. ومع لمعان بريقه وسطوع نجمه، نسينا اللقب، حتى انطمس من الذاكرة.

الأمر نفسه حدث مع شاعر آخر، مشهور ايضا. فقد ورث عن عائلته لقب «الجحش». وكنا في حواراتنا نتندر عليه ونقاطعه «نهيق (نهيك) عن هذه المسألة» أو «يا أخي لقد انطبق الحافر على الحافر». وأحيانا كنا نتعمد إغاظته بقراءة قصيدة السيد «البرادعي» المهداة إليه بإحدى المجلات الأدبية. وحتى يتخلص صديقنا الموقر من مزاجنا الثقيل، استخرج بطاقة هوية، مودعا «جحشيته» إلى الأبد، مكتفيا باسمه الرباعي الذي يحمل اسم الأب والجد وجد الجد. ولا نعرف حتى الآن كيف نجح في ذلك. لكن أخطر ما في هذه الألقاب، برغم طرافتها، وخشونتها، أن يتحول ما تثيره ـ أحيانا ـ إلى حرج نفسي دائم لحاملها. وهو ما تطلق عليه سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع، صاحبة كتاب شهير عن أسماء وألقاب العائلات في مصر «عقدة الاسم»، بخاصة لدى الأطفال في المراحل العمرية الصغيرة، حيث تتحول مثل هذه الأسماء والألقاب، إلى وسيلة ضغط، ومادة للسخرية والابتزاز النفسي، والحط من شأن الطفل نفسه، والذي لا ذنب له في هذا. وهنا ـ كما تقول الساعاتي ـ يقع العبء على المعلم والمدرسة لوضع الأمور في نصابها الصحيح، والحيلولة دون وقوع الطفل في براثن هذه العقدة المدمرة.

وبرغم أن القاعدة النحوية تقول: «الأسماء لا تعلل» ـ حسبما يذكر الدكتور صلاح الراوي أستاذ الأدب الشعبي، لافتا إلى أن معظم هذه الألقاب تعكس في مدلولاتها الجذور الأولى للعائلة، ووضعها الاجتماعي والطبقي في المجتمع، حيث الكثير منها خرج من عباءة مهنة، أو حرفة، امتهنتها القبيلة، أو العائلة، أو الجماعة البشرية، وبالتراكم التصق اسم المهنة بها، مثل: الحداد، والنجار، والجزار، والخراط، والطحان، والفحام.. وغيرها.. يضحك الدكتور صلاح حين أباغته: لكن العهدة أيضا على الراوي. وفي سياق هذا التقصي يذكر أنه من قماشة هذه الألقاب خرج مقوم أصيل من مقومات السرد الروائي والقصصي، قلما يلتفت إلية الكتاب، وهو فن «النقورة»، السخرية بالمفهوم الشعبي.. ولغويا في القاموس «نَقَرهُ» أي عابه، وذكر منه ما يسوؤه.. وبنات «النَقَرَى» تعني النساء اللواتي يعبن، ويسخرن ممن مر بهن.

ومن أجمل من استخدم فن «النقورة» بذكاء أدبي رائق الكاتب الراحل محمد مستجاب. أراد يوما أن ينتقد وزارة الثقافة، فكتب مقالا جميلا بإحدى الصحف، تساءل فيه عن حال هذه الوزارة التي يقودها أناس ينتمون لفصائل الحيوانات والطيور .. وهلم جرا، من أمثال جابر «عصفور»، وسمير سرحان (من مرادفات الضبع)، وعبد القادر القط. ناهيك عن الكوادر الصغرى، والتي تتشابك فيها عائلات: وزة، والبط، والثعلب، والفيل، والديك.. وبسخريته الشيقة تساءل مستجاب في ختام مقاله: هل هذه وزارة أم مزرعة حيوانات وطيور؟! أيضا في جعبة هذه الألقاب لا يتوقف الأمر عند حد الممازحة والسخرية، بل كثيرا ما يفرط عقدها شكلا من أشكال اللعب اللغوي، يعزف بعفوية على أوتارها المشدودة والمرخية. ويتوقف الأمر هنا على مهارة العازف ولماحيته، ومقدرته على التقاط المفارقة وصناعتها من زوايا خاصة .. وفي ذاكرة الكثيرين يقبع الكابتن محمد لطيف شيخ المعلقين الرياضيين الراحل. فعلاوة على حضوره المتميز أمام الميكروفون، كان يتمتع بحس فكاهي ساخر. بالمعنى البلدي كان «ابن قفشه». ومن أشهر قفشاته في هذا السياق تعليقه على مباريات نادي الاتحاد السكندري بالإسكندرية في ثمانينيات القرن الماضي. كان الفريق يضم آنذاك لاعبين يحملون ألقاب: الكاس، السكران، الهوا، البحر جسور، البوري .. لكن عمنا لطيف بجدية شديدة يعلَّق: («الكاس» بيطوَّح بالكورة ناحية الكورنر، بيدوّر على «السكران».. خدها الهوا، طوحها للناحية التانية، والبحر جسور هايج ..هُبّه «البوري» حطها في الشبكة). جدية لطيف، أو ممازحته، لم تجعلنا فقط نحب هذه الألقاب ونألفها، بل جعلتنا كلما نتذكره نحِنُّ إلى بعض الونس.