ضابط أميركي من البحرية يرى العراق بعيون فنانيه

تمكن من جمع العشرات من اللوحات لفنانين شباب بجهده الشخصي

TT

قد لا يكون كريستوفر جوردن براونفيلد، الضابط السابق في البحرية الأميركية وحده من وجد ألفة وانجذابا إزاء بعض معطيات الثقافة والفن في العراق، فهناك ايضا الجندي برايان تيرنر الذي اصدر مجموعة شعرية بعنوان «هنا رصاصة» التي استقبلت بارتياح من قبل النقاد، مستفيدا من شعر الجواهري ومن رموز العراق الثقافية، بدءا من العصر البابلي وحتى الوقت الراهن.

وقد ذهب كريستوفر براونفيلد، الذي جاء الى العراق كواحد من القوات الأميركية، أبعد من زميله برايان تيرنر بسعيه الى فتح عيون الأميركيين على جانب آخر من حياة العراقيين. وعمل منذ تسريحه من الخدمة العسكرية، على جمع عدد من أعمال فنانين عراقيين تفتح وعيهم الفني على الحرب ونقل هذه الأعمال الى أميركا، بغرض تقديمها وتسويقها وللتعرف على مزاياها الفنية من حيث الموضوع والاسلوب. وقد تمكن من نقل العشرات من اللوحات لأعمال فنانين شباب بجهده الشخصي أو عن طريق البريد العسكري لشحنها الى الولايات المتحدة. وبعد عام من البحث وجد الفنان عوديد هلحمي، صاحب غاليري (الرّمان) في حي سوهو بنيويورك لعرض مجموعة من الأعمال الفنية، تحت عنوان «زيت عن المشهد الطبيعي: فن بغداد المعاصر من وقت الحرب».

وقد توزعت الأعمال التي انجزها فنانون شباب عاشوا فترة الحروب والحصار والبعض منهم لا يحظى بأية شهرة وهم تجسيد لجيل الحرب. وتنوعت صنعة هذه الأعمال الأسلوبية وطرق التعبير عن المرحلة التي تلت مباشرة الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وما يجمع هذه الأعمال التي بلغت اكثر من عشرين لوحة فنية هو ثيمة الخراب والحس المأسوي والدمار، الذي رافق دخول القوات الأميركية الى بغداد.

ويقول ضابط البحرية السابق كريستوفر براونفيلد في مقدمة الكاتلوغ، الذي اصدره غاليري الرمان «لم ادرك ما معنى أن يكون المرء عراقيا، إلى ان قابلت أولئك الفنانين واصبحت صديقا لهم». ويمضي براونفيلد قائلا «لقد فتحوا عيني على عالم خفي بديع في تراثه الثقافي وعاطفته المعقدة»، ويؤكد انه تعرف على هؤلاء الفنانين بعد جهد خارج الأسوار الاسمنتية والاسلاك الشائكة للمنطقة الخضراء. ويلاحظ براونفيلد ان فعالية هؤلاء الفنانين لتطوير حرفتهم قد منحت أعمالهم مسحة من القوة خاصة وصاخبة، نظرا لظروف حياتهم غير الاعتيادية. وكما لاحظ ضابط البحرية كريستوفر براونفيلد، الذي يتمتع بحساسية فنية وبمعرفة ثقافية استمدها من دراسته للأدب، وتجواله الكثير في المتاحف، أن اعمال هؤلاء الفانين تتميز بنوع من المرارة، ومن السخرية الحادة التي تصل إلى حد الكوميديا السوداء. ففي بعض أعمال الفنان محمد الحمداني سخرية من الاستفتاء على الدستور ومن الانتخابات البرلمانية. وفي اللوحة يمكن ان تشاهد رموزا آشورية وبابلية تتسلق بشكل متوال، وكأنها على سلم نحو الأعلى باتجاه الكتابة العربية والكردية على بطاقة الاقتراع على الدستور الممزقة والغامضة، وفي بطاقة الاقتراع البرلماني الخيارات تمثل الأحزاب السياسية، وليس المرشحين كأفراد. وفي عمل آخر لنفس الفنان، احتل حيزا كبيرا من قاعة المعرض اختار له عنوان «ليلة النار» وهو مجموعة تصور مشاهد من جميع أنحاء بغداد خلال ليلة النار، وهي المعادل لشعار «الصدمة والرهبة» التي اطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش قبل اجتياح العراق.

والعمل الذي انجزه الحمداني يضم مجموعة من اللوحات، بلغ عددها 25 لوحة على امتداد ثمانية أمتار وجميعها متساوية من حيث العرض والارتفاع تسعى إلى تصوير الرعب الذي أصاب سكان بغداد، بعد أن بدأت الحملة ببعث طائراتها الحربية المدوية وبقذف صواريخ الكروز بسرعة ومن دون تمهل، بينما كانت القنابل تتفجر بقوة رهيبة في المدينة. فالعمل يذكر بلوحة بيكاسو الشهيرة غرنيكا غير انه يستوحي تقنيات فنية مختلفة تجمع بين التجريد والكولاج والتصوير وتميل ألوانها الى القتامة، بالرغم من ثرائها، ولعل ابرز سمات هذا العمل، هي الوجوه التي لا يحصى عددها لمواطني بغداد، وقد تشبثوا بنوافذهم يتفرجون. وهناك العلم العراقي وقد تلطخ ببقع زيتية ليد وإمرأة مقطعة الأوصال وقطعة خيش مزقت بعنف، ثم خيطت مزقها كما اتفق في وجه شيطاني. وتتكرر أحجار الدومينو خلال المجموعة كرمز للحظ. والعمل الذي استخدم مواد عديدة كالزيت والبلاستيك والخيش والورق وقطع ممزقة من القماش، يجسد الواقع المرعب للأضرار الجانبية التي تركتها القنابل الأميركية على العاصمة بغداد.

وينظر الفنان عوديد هلحمي صاحب الغاليري إلى العمل بمنظار أميركي وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» يقول عوديد «ان هذا العمل يذكرنا بما انجزه الفنانون الأميركيون بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية»، ويضيف عوديد الذي زار العراق عام 2004 «ان هذا العمل قد انجز خلال حرب 2003، واعتقد انه قد انجز بحرية تامة من دون أية رقابة». وما يميز المجموعة التي عرضها غاليري الرمان، هو انتماؤها الى التقاليد الفنية، التي كرسها الفنانون العراقيون بدءا من جيل الرواد وحتى الوقت الراهن، فمن البساطة أن تجد تقنيات الفنان جواد سليم والفنان شاكر آل سعيد ورافع الناصري وضياء العزاوي وآخرين. وتجد هذا التنوع في الأسلوب والتقنية في أعمال فلاح العاني وأسعد الصغير، وفي اعمال محمد حمدان وموفق مكي وأحمد ناصيف وستار درويش. ويقول كريستوفر «هؤلاء الفنانون هم مستقبل العراق الثقافي، وهم يبنون تراث بلدهم»، ويوضح «ان هدفي هو المشاركة في تقديم رسالتهم عن الحرب، ولتقديم وجهة نظر العراقي عن الولايات المتحدة».

وقد ضمت مجموعة المعرض أعمالا للفنان قاسم سبتي، تعكس محاولة يائسة لإنقاذ المكتبة الوطنية العراقية التي تعرضت الى الحريق والنهب، بعد دخول القوات الأميركية الى بغداد، ويصف عوديد محاولة قاسم سبتي بأنها أشبه بعمل رجال الأطفاء. وضمت المجموعة التي عرضها الفنان سبتي اعمالا تجمع بين التزيين والكولاج لأغلفة كتب وطرق تجليدها مستخدما الجلود ومادة الخشب، وعلى بعضها كتابات بلغات متعددة من بينها الروسية والفرنسية والانكليزية، إضافة الى العربية، للإشارة الى المخطوطات العربية القديمة. ولم يخف الفنان عوديد فرحه من النجاح الذي حققه المعرض، وهو يأتي بعد سلسة من المعارض التي خصصها غاليري الرمان منذ عامين للفن والثقافة العراقية. والفنان عوديد هو يهوي عراقي ولد في بغداد وترك العراق في الخميسنات من القرن الماضي، ودرس الفن في لندن ونيويورك ثم استقر عوديد في نيويورك منذ السبعينات، وبقي وهو نحات، حريصا على ثقافته وتراثه العراقي، رغم سنوات الغربة ويؤكد «على الأميركيين أن يعرفوا أن في العراق ثقافة، وليس النفط فقط». يذكر «ان زوار المعرض احيانا يسألون عن هوية مذهب الفنانيين، وما أؤكد لهم ان هناك ثقافة عراقية توحد الفنانين العراقيين، بعض النظر عن هويتهم الطائفية أو الدينية أو القومية، وأن هذه الأعمال التي انجزها فنانون شباب أغلبيتهم لم يغادروا العراق، تؤكد على هوية واحدة». وأما كريستوفر براونفيلد الذي ترك القوات البحرية الأميركية، والذي درس علم الذرة والأدب، والذي يقيم حالية في ولاية كونتكيت، فقرر أن يكون واسطة لتسويق الفن العراقي المعاصر، وهو كثير السفر ما بين أميركا والعراق وسورية والأردن، لمساعدة الفنانين، وقد كتب كتابا عن تجربته في العراق، وسيغادر قريبا الى مدينة بولونيا في ايطاليا لاستكمال دراسته للفن.