برنامج «أعطونا السلام» غيّر طموح أطفال في جنوب لبنان

بعضهم كان يريد أن يصبح «شهيدا».. فصار يحلم بالفن

TT

لملمت الناشطة الاجتماعية والرسامة كيكي بوكاسا كلمات أطفال الجنوب اللبناني وألوانهم، وجمعت حصيلة عام من تدريبهم على الرسم والكتابة في مجموعة زاهية حملت عنوان «اعطونا السلام».

وكانت بوكاسا قد انطلقت في مشروعها هذا بفضل دعم المؤسسة الايطالية غير الحكومية «un Ponte Per» لتنفيذ برنامج «الدعم لتنمية التربية والثقافة الاجتماعية في المناطق المتأثرة من خلال نزاع عام 2006». اما ورش التدريب فاستضافهما مركزان ثقافيان في بلدتي حولا ودير قانون النهر في جنوب لبنان. ما كتبه الاطفال في المجموعة يكشف الضرورة التربوية والنفسية للبرنامج بعد العنف الذي تعرضوا له جراء حرب يوليو (تموز) 2006، كذلك ألوانهم الغارقة أحيانا في عتمة الأسود أو دموية الأحمر، والتواقة أحيانا أخرى الى ازرق أو اصفر. تقول بوكاسا لـ«الشرق الأوسط»: «عندما بدأت المشروع الممول من المؤسسة الإيطالية كان الأطفال حذرين من الانفتاح على أي نشاط. وكانوا يعتبرون أني أريد استخدامهم من خلال التدريب على الرسم. لذا حاذرت وفريق العمل من المتطوعين المحليين الكلام عن الحرب التي كانت قد طوت صفحتها قبل أشهر. شيئا فشيئا كسبت ثقتهم وبدأوا يخبرونني عن معايشتهم للحرب. طلبنا اليهم كتابة قصصهم أو رسمها. وكانت الحصيلة مذهلة. بعض القصص جاءت لطيفة ومقبولة وبعضها الآخر كان قاسيا وعنيفا ولم نتمكن من نشرها في الكتيب لأن المؤسسة الداعمة ستوزعه في المدارس الايطالية».

لكن الابتعاد عن العنف اللفظي لا يخفي معاناة الاطفال الذين تراوحت اعمارهم بين الاربع سنوات و14 عاما. فقد كتب علاء ابن التاسعة ما يلي: «الحرب تعني لي ظلما للاطفال الصغار، لانهم يرتعبون وسلاح الصغار هو البكاء. ما ذنبهم اذا كان كل طرف ضد الطرف الآخر. وانا مع الذي يقف قرب الصغار اثناء الحرب». اما حسين فقد رسم بيروت غرفة صف وعجلة سيارة. وكتب: «اثناء الحرب ذهبت الى بيروت لأن القصف كان قويا حولنا. كنت خائفا وقلقا على جدي وجدتي اللذين بقيا في القرية. عندما انتهت الحرب عدنا الى قريتنا. هذه هي بيروت التي هربت منها». توضح بوكاسا ان «الاطفال كانوا بحاجة الى العمل ليخرجوا من وطأة الحرب والتهجير. أحبوا الرسم والكتابة. أحبوا تاريخ الرسم والتمرن على أعمال الكبار قبل الانتقال الى مواضيعهم الخاصة». هذه المواضيع تنوعت بين الطيور والاسلحة والآليات العسكرية. وأحيانا لا بأس بأصابع اليدين للامساك بالكرة الارضية. السماء بدت سوداء في بعض لوحات الصغار والعلم اللبناني قد يتحول غيمة او سترة او جناحي عصفور. «الموت» و«الخوف» وثياب النوم« وغيرها من الكلمات شكلت متن النصوص الطفولية، في حين تغيرت وظيفة المدرسة لتصبح المأوى الموقت بانتظار العودة الى الدمار. كل هذه المواضيع المؤلمة كانت حبيسة صدور الاطفال وأفكارهم. ولم يكن سهلا إخراجها الى الورقة أو القماشة.

عن معايشتها هذه المعانة تقول كيكي: «في بداية الأمر كان الأطفال عديمي الصبر لا يستطيعون التركيز دقائق معدودة. بعد ذلك أصبحوا يعملون طوال ساعات، حتى وهم صائمون. اكتشفت لديهم نضجا يفوق عمرهم وقدرة تحمل غير طبيعية. رغم المعاناة كانوا فرحين بالعمل. فقد ساعدهم الفن على تجاوز مأساتهم، لا سيما عندما لمسوا ان هناك من يهتم بعملهم. والأهم ان الفن لم يعد تافها في اهتماماتهم.

أما عن انعكاس الصراع السياسي على عمل الأطفال تقول بوكاسا: «عندما انطلقت الورش كان الأطفال يتعاملون مع الألوان وفق السائد السياسي. من يعتبر نفسه في صف المعارضة اللبنانية كان يرفض اللون الأزرق مثلا. ومن كان مع الأغلبية النيابية كان على عداء مع الأصفر والأخضر. كل طفل كان يريد لون أهله السياسي انطلاقا من شعارات الأحزاب وأعلامها. كذلك كان النقاش يدور حادا بين الأطفال على خلفية الهوى السياسي لعائلاتهم. لم يكونوا كلهم في خندق سياسي واحد مع انهم كلهم من طائفة واحدة، كما يتصور البعض. بعضهم كان يريد ان يعمل «شهيدا» عندما يكبر. أحدهم قال انه يتوق للموت من أجل القضية. كلمة «السلام» كانت مرفوضة من قبلهم، سواء السلام مع اسرائيل او السلام مع الفريق الآخر في الوطن. بعد فترة تغيرت الأمور. بعضهم كان يريد ان يصبح طبيبا والآخر فنانا او مزارعا او مهندسا». لا تتعب كيكي من الحديث عن «أطفالها» تخاف عليهم بعد انتهاء البرنامج. تعرف مدى حاجتهم الى الرسم والكتابة. وتعرف كذلك ان الأمر لنكون متوفرا من دون جهة تتبنى هذه الحادة وتدعمها.

عندما عادت الى حولا ودير قانون النهر لعرض صور الأطفال وتوقيع الكتيب، حدثوها عن حنينهم الى العمل معها. قالت: «اشعر بالقلق لأن لا أحد يهتم بهم، فهم بحاجة الى المتابعة».