«جامع الفنا».. ساحة تُغيّر جلدها باستمرار

مطاعم شعبية وغولف وملاكمة وثعابين وحكي وغناء وحناء

في حلبات الملاكمة بجامع الفنا، يمكن أن يواجه طفل في العاشرة شيخاً في الستين («الشرق الأوسط»)
TT

لاسم ساحة جامع الفنا بمراكش وقع خاص في نفوس هواة السفر والسياحة والتعـرف على الأماكن الساحرة والفريدة في العالم. هي ساحة يصعب تعريفها أو تقديمها لمن لم يسبق له أن تجول عبر تفاصيلها. كما أنها، قبل أن تكون فضاء للفرجة والأكل والتسوق، هي رمز وعنوان يقدم لتاريخ من المشاعر والأحداث والأسماء. ولذلك ظلت تتمنع وتستعصي على الوصف. فليس من رأى الساحة مثل من سمع عنها. وساحة جامع الفنا هي قلب مراكش، ولذلك لا تستقيم زيارة المدينة الحمراء، ولا تكتمل، من دون زيارتها.

واشتهرت الساحة، على الخصوص، بحلقات الفنون الشعبية من حكي وغناء، وعروض الترويض الخاصة بالأفاعي والقردة، غير أن أهم نقط قوتها أنها تقع في عمق المدينة القديمة، بأزقتها ودروبها ودورها القديمة وأسواقها الشعبية.

وتمتد على يمين الساحة صفوف طويلة لبائعي عصير البرتقال والفواكه الجافة. وفي الوسط تنتصب مطاعم شعبية، تقدم مختلف أصناف المأكولات، من مشويات وكسكس وبسطيلة وسمك ودجاج وطاجين وقطاني وشوربة مغربية (حريرة)، مصحوبة بالتمر والحلويات المغربية (الشباكية). وفي الجنبات حلقات الغناء والحكي والفكاهة وترويض القردة والثعابين والنقش بالحناء و«قارئات» الكف. عالمٌ فريد يقترح على زواره، كل يوم، وفي نفس الوقت، أشكال فرجة متنافرة، وأكثر غرابة وفرادة.

ولكن، الساحة الشهيرة لم تستطع أن تبقى بمنأى عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها، فزوارها ظلوا يتبدلون في عاداتهم وانتظاراتهم، كما أن حكم الزمن لم يمنح «أبطالها»، من حكواتيين ومغنين وغيرهم، مهلة الركون المستمر إلى نفس ما ظلوا يؤثثون به لحلقاتهم وعروضهم، فقصص «عنترة بن شداد» و«الأزلية» صارت تتخفف من أبطالها، شيئاً فشيئاً، في وقت طورت فيه المطاعم الشعبية من خدماتها، فصارت تضيف إلى قائمة وجباتها أصناف أطعمة تساير بها تغير حال المدينة وأحوال الزوار. حتى الثعابين «الحية» صارت تنافسها ثعابين «بلاستيكية»، يقوم أطفال صغار بعرضها على السياح كتذكارات، وبأثمنة مناسبة. ولم يشمل تبدل وجه ساحة جامع الفنا مضمون بعض حلقاتها، فقط، بعد أن «ابتكر» البعض أشكال فرجة جديدة ومعاصرة. وهكذا، وبدل أن يقنع السائح بالاستماع والمشاهدة، بصدد ما يقدم إليه من حكي وغناء، مثلا، صار بإمكانه أن يدخل حلبة ملاكمة ليوجه ضربات خاطفة أو قاضية إلى منافس آخر جاء الى مراكش، بدوره، باحثاً عن المتعة والاستجمام، قبل أن ترمي به الساحة إلى حلبة التباري. وداخل «حلبات» جامع الفنا، وعلى عكس قوانين الملاكمة، يسمح لـ«ملاكم» وزن الريشة أن يواجه من يُحسب على وزن الخفيف الممتاز أو الوزن الثقيل. كما يمكن أن يواجه طفل في العاشرة شيخاً في سن الستين، أو تنازل فتاة في سن العشرين فتى في العاشرة. أما بالنسبة لمن لا يستطيعون تسديد الضربات أو استقبالها، فيمكن لهم أن يستمتعوا بلعبة الغولف، مقلدين أشهر الأبطال العالميين، ممن نتابعهم يتبخترون فوق المساحات الخضراء، في كل فصول السنة، وهم يضربون كرات صغيرة نحو حفر بعيدة. وبهذا، تكون الساحة قد دخلت منطق السوق وثنائية العرض والطلب، مما يؤكد حقيقة أن لا شيء يبقى على حاله وأن دوام الحال من المحال، وأن ساحة جامع الفنا، كما عايشها البعض في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، على الأقل، تختلف عن ساحة بدايات الألفية الثالثة.

ويقول الشاب حسن برزيز، صاحب لعبة الغولف الاصطناعي في الساحة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه يشتغل بالنهار في عمل قار، ويقصد الساحة ليلاً للاستمتاع باللعبة وجني بعض المال من زوار الساحة، ممن تستبد بهم رغبة التلاعب ببعض الكرات نحو الحفرة الوحيدة التي اختصر بها لعبة، وجرت العادة أن تكون من 18 حفرة. وبهذا يكون الشاب قد «طور» لعبة، لها قوانينها، وجامعاتها، وأبطالها، ومساحاتها الخضراء، وحفرها، ومسالكها، واختصرها في مساحة تقل عن المترين، تُلعب ليلاً، على بساط اصطناعي أخضر صغير، على أضواء فانوس تقليدي الصنع، الشيء الذي يعني أنه «أنزل» لعبة عرفت بأنها خاصة بالأغنياء، فجعلها شعبية، بحيث يصير بإمكان الجميع، فقراء وأغنياء، أن يمسكوا بالعصا لضرب الكرة.

وبدأت حكاية «غولف جامع الفنا»، قبل سنوات حين تعرض الشاب حسن لوعكة صحية جعلته غير قادر على القيام بأشغال تتطلب مجهوداً بدنيا، ولذلك فكر في ابتكار لعبة يكسب بها بعض المال. في البداية، يقول حسن «أعجب السياح بالفكرة، وأقبلوا على اللعبة. أما المقابل، فيعود لأريحية السائح، كما أن غايتي ليست هي الربح. أنا أقترح على المغاربة قذف 5 كرات نحو الحفرة الوحيدة، بدرهمين. وكل كرة تدخل الحفرة تعطي «اللاعب» الحق في كرة إضافية. المهم بالنسبة لي هو أن أنسى المشاكل الشخصية من خلال هذه اللعبة، كما أن الزوار يجدون فيها شيئاً مختلفاً. فمنهم من يجد في الأمر طرافة ومنهم من يجد فيها تأكيداً على حاجة الساحة لتطوير ذاتها باستمرار».

ولكن مسايرة التطور تتطلب الوعي بطبيعة التحولات مع قدرة كبيرة على الربط بين مضمون الماضي والأشكال التي يقترحها الحاضر. ومع التحولات التي أصابت جامع الفنا، صار بعض الكتاب العالميين المشهورين، ممن هاموا بالساحة ودافعوا عنها حتى صنفت تراثاً شفوياً عالمياً من طرف اليونسكو، يكتفون بالجلوس في المقاهي المحيطة بالساحة، يشربون كؤوس الشاي المنعنع، ويتمعنون في شريط التحولات التي تعرفها الساحة الشهيرة أمامهم. وهي عادة صار يجاريهم فيها بعض المثقفين المراكشيين، ممن لا يخفون تضايقهم من «مآل الساحة»، ويقولون إن «الفرجة مُحيت وقتلت في جامع الفنا»، مستشهدين بذكرياتهم مع «باقشيش» و«ولد عيشة» و«فقيه لعيالات» و«عمر مخي» و«إمداحن» و«عمر واهروش»، وغيرهم من نجوم الحكي والفكاهة والفرجة في عقدي ستينات وسبعينات، وحتى ثمانينات الساحة. وبين الماضي والحاضر، تتابع ساحة جامع الفنا حكايتها مع الزمن، ومع التحولات المتسارعة من حولها. وسواءٌ تعلق الأمر بالماضي، مع «الصاروخ» و«باقشيش»، أو بالحاضر، مع «قفازات» الملاكمة و«حفرة» الغولف، فإن الغاية تبقى هي تقديم فرجة يومية تجعل من جامع الفنا، ساحة مفتوحة على مستقبلها، من دون التفريط في رمزيتها التاريخية وصيتها الإنساني.