مهرجان «كناوة وموسيقى العالم».. لحظة سعادة في الصويرة المغربية

جمهوره يتوحد في عشق الفن الذي يهب سنويا على مدينة الرياح

بعض أبناء الصويرة يؤدون العروض في الشارع خلال أيام المهرجان («الشرق الأوسط»)
TT

إذا كانت مدينة الصويرة المغربية قد عُرفت في الماضي عبر ما يؤرخ لها ولمراحل تشكلها، فإنها صارت تـُعرف، في الحاضر، بمهرجاناتها العديدة، وخصوصاً «مهرجان كَناوة وموسيقى العالم»، الذي يستقطب، كل سنة، أكثر من نصف مليون زائر.

وللسنة الحادية عشرة، وفي نفس التوقيت، تقريباً، سيـُغير أهل الصويرة، عادة التوجه، مساءً، نحو شاطئ المدينة ليتأملوا البحر، ومشهد غروب الشمس، فيما أبصارهم تحدق في ظلمات المحيط، كما لو أنهم يستعيدون حكاية السلطان الذي رسم مدينتهم، قبل أكثر من ثلاثة قرون. ولعل ما يميز مهرجان الصويرة هو أن موسيقى كناوة ليست مجرد موسيقى عادية، فمن جهة انها تتميز بإيقاعات قوية، مُحملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الحضاري الأفريقي والأمازيغي والعربي، تناجي الأرواح الخفية وتغازلها، وتتوسل بالإيقاعات والألوان، وخاصة اللونين الأحمر والأزرق، وإحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كما تتوسل بآلات خاصة، مثل «الكَنبري» أو «السنتير (آلة وترية من ثلاثة حبال)»، و«الكنكة (الطبل)»، ثم «القراقش (صنوج حديدية)».

وكانت علاقة الصويرة بموسيقى كناوة، التي تعود إلى أصول أفريقية، قد انطلقت منذ القرن 17، مع تحول المدينة إلى مركز تجاري مهم ونقطة تبادل تجاري مع «تمبكوتو»، ولذلك تتباين الآراء بخصوص أصل تسمية «كناوة»، فهناك من يجعلها تحريفاً لغينيا، وهناك من يجد لها أصولا أمازيغية، من خلال كلمة «أكال ن إكناون»، وتعني الشخص الغريب الذي لا يـُفهم كلامه، أو من يربطها بمعاني ترتبط بمفردة «قن»، كتعريف ومرادف للعبد.

وبين أحداث الماضي وأيام الحاضر، تترك الصويرة لطيور النورس البيضاء مهمة الترحيب بزوارها، الذين صاروا يزدادون سنة بعد أخرى. وكما في الدورات العشر السابقة، ينتظر أن تفيض المدينة الصغيرة بزوارها، وهي تنظم «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، في دورته الحادية عشرة، ما بين 26 و29 يونيو (حزيران) الحالي.

ومثلما سحرت الشباب المغربي، فإن الصويرة، التي تـُعرف بأنها مدينة الرياح، وتعشق البحر وتتطور بالموسيقى، استطاعت أن تسحر آلاف السياح، الذين يزورونها، على مدار العام، وخلال أيام المهرجان، بشكل خاص، قادمين، إليها، من مختلف الجغرافيات والثقافات واللغات والديانات والأعراق، ليستمتعوا بمهرجانها وسحرها. ويَـعـد المنظمون جمهور وعشاق المهرجان والصويرة بالعديد من المفاجآت، التي تتضمن برمجة غنية تحافظ للمهرجان على فرادته وتميزه، عبر حضور نوعي لفنانين من المغرب وكثير من دول العالم. سيكون الجمهور على موعد مع رموز من المغرب، إضافة إلى فنانين من الأميركتين، وعازف بلجيكي وآخر لبناني ، كما تعرف الدورة استضافة كيماني مارلي، ابن الأسطورة بوب مارلي، والفرقة الوطنية لباربيس (فرنسا). ووفاء لجذور المهرجان الأفريقية، حرص المنظمون على دعوة الفنانين الماليين نغوني باسيكو كوياتي، وتوماني دياباتي.

وعلاوة على الحفلات الموسيقية، التي ستحتضنها خشبات ساحة مولاي الحسن، وباب مراكش، وباب دكالة، وغيرها من المواقع، سيكون جمهور المهرجان مع عروض راقصة في الشارع ودمى عملاقة ستتجول في أزقة وشوارع المدينة، وأفلام وثائقية عن الموسيقى، وموائد مستديرة، ولقاءات ثقافية، تستظل بـ «شجرة الكلمات».

ويُعول المنظمون على أن يواصل المهرجان صُـنع المزيد من اللقاءات بين معلمي كناوة وموسيقيي العالم، وهي اللقاءات التي صنعت شهرة المهرجان، وجعلت منه موعداً سنوياً لكل محبي موسيقى كناوة، جمهوراً وفنانين.

وفي الوقت الذي يدين فيه المهرجان بالشيء الكثير إلى مدينته، فإن العكس صحيح، أيضاً، من جهة الدينامية التي صارت ترافق فعاليات المهرجان والأثر الإيجابي لكل ذلك على تنمية المدينة.

وحين يقارن المنظمون وأهل الصويرة بين أمس المدينة وحاضرها، ينتهون إلى أنها تعيش ثورة فعلية وإيجابية يُـعبر عنها اقتصادياً واجتماعياً، وعبر مختلف المستويات، مع المحافظة على موروثها الثقافي وذاكرتها، والعمل في اتجاه كل التقاطعات الممكنة بين مختلف الحساسيات والروحانيات والديانات والأعراق. ويرى أندري أزولاي، الرئيس المؤسس لـ«جمعية الصويرة موغادور»، أن «الصويرة هي، اليوم، عنوانٌ للمغرب المنفتح الذي يتـقدم من دون عُـقد. المغرب المتجذر في هويته وقيمه، مع وفاء كبير للذاكرة، من دون خوف أو تخوف من الذهاب نحو الآخر والانفتاح على كل أنواع الموسيقى والثقافات والديانات والأعراق». ويعود أزولاي بذاكرته إلى الوراء، فيقول إن «الصويرة كانت، وإلى حدود بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، مجرد مدينة في طريقها نحو الضياع، ولكنها، انطلاقاً من منتصف التسعينيات، وخصوصاً مع دورات «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، استطاعت أن تنفتح على مستقبل واعد»، قبل أن يشير إلى أن «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، «ليس المهرجان الوحيد الذي ينظم بالصويرة، لكنه الأهم من حيث صيته وجمهوره»، وأنه «لا يقوم على الموسيقى، فقط، بل على القيم، أيضاً: قيم التشارك والانفتاح والحداثة»، وأنه «يمثل لحظة سعادة نتقاسم فيها مع زوار المدينة، مغاربة وأجانب، كل ما نحب، وهذه اللحظة هي ما يشكل نقطة قوة هذا المهرجان، مقارنة بمهرجانات عالمية أخرى».

ولا ينسى أزولاي أن يتحدث عن المستقبل، فيقول إن «الصويرة ستواصل تطورها، لكن مع المحافظة على روحها وموروثها»، مشدداً على أن «الهدف الأساس سيبقى دائماً هو أن نجعل هذا التطور في خدمة المدينة».

ويتميز مهرجان كناوة، وربما على عكس كثير من مهرجانات العالم، بمحافظته على ذلك الخيط الرابط بين جمهور متعدد الجنسيات والطبقات والأعمار  والأذواق والديانات، لكن المتوحد في اختياره وعشقه لموسيقى كناوة ووفائه لمهرجان ربط أهدافه بماضي مدينة هادئة، ظلت تستقبل جمهور مهرجانها بتلقائيتها المعروفة.

وللمرة الحادية عشرة، ستستقبل طيور النورس جمهور المهرجان وزوار المدينة، مثيرة الانتباه بأصواتها البحرية، فيما البحر، بين مد وجزر، يستقبل هواة ركوب الأمواج وعشاق المياه الزرقاء ورمال الشواطئ، أما رجال الأمن والقوات المساعدة فسيجوبون الشوارع والأزقة والساحات وكل أرجاء المدينة، بالليل كما بالنهار، استتباباً للأمن وحفاظاً عليه.

وإذا كانت أعداد زوار المدينة وجمهور «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، والذي كان يحمل اسم «مهرجان ثقافة كناوة»، في دورته الأولى، قد سجل أقل من 20000 زائر، فإن المنظمين ينتظرون أن تستقطب دورته الحادية عشرة نصف مليون زائر، وهو نفس العدد الذي سجل في الدورة العاشرة.

ويتفق المتتبعون لدورات «مهرجان كناوة موسيقى العالم» على دوره في محافظة فن كناوة على وجوده، مشددين على الدور الكبير الذي لعبه المهرجان في حياة فناني كناوة، إذ بعد أن كان معظمهم معوزين ويضطرون للاشتغال بمهن أخرى لكسب متطلبات الحياة اليومية، أعطاهم المهرجان فرصة للاشتغال والتعرف على ممارسات موسيقية متنوعة أغنت تجاربهم، ومكنتهم من الشهرة، في المغرب وعبر العالم، كما أصبحت موسيقى كناوة مصدر إلهام للعديد من كبار الموسيقيين عبر العالم، إضافة إلى أن المهرجان صار له بعد أساسي، يتمثل في التمازج الموسيقي، عبر صهر الأغاني التقليدية الكناوية بتيارات موسيقية راهنة، الشيء الذي مكن المهرجان من نجاح شعبي وشهرة عالمية.

ويبدو أن مهرجان الصويرة ما كان له أن يحافظ على صيته لولا توفر كثير من نقط القوة التي تجعل منه طبقاً فنياً يلبي أفق انتظارات جمهوره الواسع والوفي، الذي ظل يجمع الطلبة بالوزراء، والموظفين بالعاطلين، والمغاربة بالأجانب، حيث الكل يتوحد في عشق هذه الريح الفنية التي صارت تهب كل سنة على مدينة الرياح. ويبدو أن السر وراء الجمع بين جمهور متنوع وزوار بجيوب دافئة، تمنح أصحابها فرصة الأكل الجيد والإقامة في دور وفنادق المدينة، وزوار يقصدون المدينة والمهرجان، بجيوب باردة تجعلهم يقتلون الجوع وينامون كيفما وحيثما اتفق، هو لحظة السعادة التي يبحث عنها الجميع، استجماماً ومتعة وراحة بال. أما أهل الصويرة، المعروفون بطيبهم وحفاوتهم البالغة، فسيختلطون بالزوار، ممن تتلبسهم روح الصويرة فيتيهون بين أحياء وأزقة وشوارع المدينة، بحيث يصير من الصعب التمييز بين من هو الضيف ومن يكون المضيف.