السوق الشعبية في السليمانية.. لا تزال تقاوم

تمتزج فيها روائح التوابل بروائح العطور

في وسط السوق المزدحم هناك مجموعة من النسوة القرويات اللائي يبعن النباتات الطبيعية التي تكثر في جبال وسهول كردستان اثناء فصل الربيع
TT

تشهد مدينة السليمانية كغيرها من مدن اقليم كردستان، ومنذ خمس سنوات تقريبا نموا وازدهارا اقتصاديا وتجاريا، يتضحان بجلاء في الاسواق العصرية المنتشرة في معظم ارجاء المدينة ويتجسدان في نوعيات واصناف البضائع المستوردة التي تعج بها هذه الاسواق المبنية وفق النظام الحديث المتبع في العالم، وبالرغم من الاقبال الهائل للزبائن على تلك الاسواق الحديثة المؤلفة بعضها من عدة طوابق واجنحة تضم شتى انواع السلع التي ظلت الاسواق العراقية محرومة منها حتى عام 2003، إلا ان الاسواق الشعبية في السليمانية ما برحت سيدة الموقف وتجتذب يوميا اكبر عدد من الزبائن الذين تفضل غالبيتهم العظمى التبضع من الاسواق الشعبية، لجملة من الاسباب، لعل ابرزها توفر البضائع باسعار زهيدة، وقدرة الزبون على انتقاء السلعة التي يريدها بمنتهى الحرية بعيدا عن الروتين المتبع في الاسواق العصرية، ناهيك عن ان السلع والمواد التي يحتاجها الكثيرون في امورهم اليومية، يتعذر الحصول عليها في الاسواق الراقية ذات السلع المستوردة .

فسوق قيصرية النقيب الشعبية التي يعود تاريخ تأسيسيها الى عام 1900 للميلاد والكائنة في قلب المدينة، ما زالت المركز التجاري الابرز الذي يقصده سكان المدينة او من يحل ضيفا عليها، وتتألف هذه السوق الشهيرة من ممر طويل تتفرع منه عدة فروع جانبية على شكل اجنحة تضم كلها محالا متقابلة، ويتخصص كل جناح منها في بيع اصناف معينة من السلع، فهناك بعض الاجنحة تتخصص في بيع مواد التجميل والماكياج ذات المنشأ الايراني والتركي والصيني والهندي، فيما تتخصص اجنحة او محال اخرى ببيع الاكسسوارات والحلي المزيفة المصنوعة خصيصا في ايران والصين والهند، والتي ترتديها النسوة مع الازياء الكردية الشعبية، الى جانب المحال المخصصة لبيع اشهر انواع العطور البريطانية والفرنسية وادوات الزينة الخاصة باحتفالات اعياد الميلاد ورأس السنة ولعب الاطفال وغيرها .

ويقول بيشوا لطيف 24 عاما صاحب محل لبيع مواد الزينة انه ورث المحل من والده وجده الاكبر الذي كان قد اشترى الدكان الواقع في بداية البوابة الجنوبية للسوق عام 1950، لكن جده كان بائع توابل، أما والده فقد حول النشاط التجاري للدكان الى بيع ادوات ومواد الزينة إبان السبعينات وما زال مستمرا في ذلك، واضاف لطيف في حديثه لـ «الشرق الأوسط» ان مبيعات المحل تزداد بحلول المناسبات السعيدة كأعياد نوروز التي يقبل فيها الاطفال الصغار على شراء المفرقعات والبالونات وغيرهما وأعياد رأس السنة الميلادية التي يهم الجميع بشراء القبعات الخاصة بالميلاد والمصابيح الضوئية التي تزين اشجار الميلاد والشموع والمفرقعات وغيرها، وان ذروة بيع مواد المحل تكون في الغالب قبل نهاية العام بعدة ايام، مؤكدا بأن معظم مواد الزينة يتم استيرادها من الصين.

وفي وسط هذه السوق الشعبية التي تمتزج فيها روائح التوابل بروائح العطور هناك عدة محال متجاورة تتخصص في بيع المنمنمات والخرز والاحجار الكريمة والقلادات والاحزمة النسائية ذات الاشكال الجذابة المطرزة بالليرات المصنوعة من المعدن العادي والمطلية بلون اصفر لتكون شبيهة بالليرات الذهبية القديمة والتي يتخللها خرز مختلف الالوان ترتديها السيدات الكرديات في المناسبات السارة.

ويقول شاخوان جمال 27 عاما صاحب احد تلك المحال انه يستورد هذه الاكسسوارات والمنمنمات وخرز العقيق والفيروز من الهند وتركيا والصين التي تتولى شركاتها تصنيعها طبقا للمواصفات التي يتم تقديمها مسبقا ووفقا لنماذج قديمة، واضاف في حديثه لـ «الشرق الأوسط» ان افضل تلك الاكسسوارات هو ذات المناشىء الهندية التي تتميز بالجودة والاناقة، والتي يكثر الاقبال عليها من قبل الفتيات والسيدات لا سيما في بداية فصل الربيع التي تتزامن مع رأس السنة الكردية، وان اسعارها تتراوح بين 10 آلاف و100 الف دينار عراقي اي ما يعادل 8 الى 80 دولار اميركي، وفي تعليقه على مدى مصداقية الاحجار الكريمة كالعقيق والفيروز والزمرد التي تستخدمها النسوة الكرديات اما بهدف معالجة بعض الحالات المرضية عند الاطفال الرضع أو لدرء الحسد او للانجاب قال جمال انه هراء ولا علاقة لهذه الاحجار بتلك الحالات ولكن النساء يرفضن فهم ذلك. وتحاط هذه القيصرية ذات الابواب الثلاثة بمجموعة اخرى من الاسواق والمحال الممتدة على هيئة فروع ضيقة تضم دكاكين صغيرة في الغالب وعلى مساحة تزيد على خمسة كيلومترات مربعة ومتخصصة ايضا في بيع سلع ومواد من صنف واحد لا تتوفر في القيصرية المذكورة، ففي طريقك الى سوق النقيب من الجهة الشرقية لا بد من المرور بسوق بيع المكسرات الذي يضم اصنافا ممتازة من الجوز الكردي المقشر والعسل الطبيعي المعبأ مع الشمع وجزء من خلية النحل في قوارير سعة الكيلوغرام الواحد، واصناف محلية عديدة من الجبن المعبأ في اكياس من جلود الخرفان، وعصير الرمان المركز المخصص للذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم، فضلا عن تشكيلة واسعة من التين والمشمش المجفف والحلقم المطعم بالفستق الايراني واللوز وغيرها من المكسرات ووجبات الفطور المعتادة في كردستان. وفي الجانب الآخر من السوق المحاط بقيصرية النقيب هناك محال تتخصص في بيع المواد والمستلزمات المنزلية المصنوعة من اللدائن ذات المناشىء الايرانية والتركية والسورية، واخرى متخصصة في بيع التوابل والبهارات الهندية ذات الروائح النفاذة التي تزكم الانوف وتعطي نكهة خاصة لهذه الاسواق، تمتزج برائحة لحوم المواشي المعلقة في واجهات محال بيع اللحوم المجاورة والتي يتفنن اصحابها في عرضها باسلوب يجتذب الزبائن عن بعد لا سيما من كان منهم جائعا، وفي الطرف المقابل هناك طابور طويل من محال بيع الخضراوات والفواكه التي يشتهر اصحابها بالترويج لبضائعهم باصوات عالية وذات نبرات شاذة تتداخل مع بعضها لتشكل فوضى عارمة يصعب تحملها، وفي وسط هذا السوق المزدحم والمغطى بالالواح المعدنية في معظم اجزائه هناك مجموعة من النسوة القرويات اللائي يبعن النباتات الطبيعية التي تكثر في جبال وسهول كردستان اثناء فصل الربيع مثل الخباز الذي يكثر في حقول الباقلاء والكعوب وهو نبتة شوكية ذات ساق قصيرة تكثر في السهول والوديان ويتم طبخها بأساليب مختلفة ولها طعم رائع، وكذلك الريواز وهو نبتة ذات ساق طويلة ولها مذاق حامضي مذهل وتكثر في المناطق الجبلية علاوة على نباتات واعشاب ربيعية اخرى توفرها الطبيعة كمصدر رزق لهؤلاء القرويات اللائي لا معيل لهن، ومصدر غذاء للآخرين في هذا الموسم الاخضر، وقالت البائعة خانم نوري 47 عاما من اهالي قرية زنانة القريبة من كركوك، انها تمارس هذه المهنة منذ ان فقدت ذويها ومعيل اسرتها في حملات الانفال عام 1988، وانها تتجه في الصباح الباكر نحو السهول والمزارع المحيطة بقريتها، وتقوم بجني نباتي الخباز والكعوب مع ابنتيها الصبيتين ثم تقوم بنقل المحصول الى سوق السليمانية بحلول منتصف النهار لتبيع الكيلوغرام الواحد منه بنحو الف دينار عراقي اي ما يعادل دولارا واحدا فقط بغية تأمين قوت اسرتها المؤلفة من سبعة افراد، واضافت في حديثها لـ «الشرق الأوسط» انها تعمل في موسم الربيع فقط وتلازم منزلها سائر فصول العام باستثناء ممارسة بعض اعمال الفلاحة والرعي البسيطة التي قالت ان مردودها المالي لا يوفر الحد الادنى من مطالب ومستلزمات العيش المتواضع. وفي الجانب الشمالي من هذه السوق المترامية هناك سلسلة متراصة من محال الصاغة الكبيرة ذات الواجهات الزجاجية الانيقة التي تعج بشتى انواع الحلي الذهبية ذات المناشئ الايرانية والخليجية والتي تجتذب اعدادا كبيرة من النسوة طوال ساعات النهار في حركة تجارية محمومة وفريدة، ويقول الصائغ «آلان رؤوف علي» انه ورث المهنة من والده منذ 35 عاما، وانه يستورد الحلي الذهبية من دول الخليج العربية وتحديدا من امارة دبي، اما اسعارها فتحدد وفقا للاسعار المتداولة في البورصات العالمية التي يتابعها بدقة واستمرار عبر التلفزيون، واضاف في حديثه لـ «الشرق الأوسط» ان الغالبية العظمى من زبائنه هم من النساء وتحديدا الفتيات اللائي في طريقهن الى الزواج، مؤكدا بان اسعار الذهب في ازدياد مطرد ومستمر، ففي عام 2000 مثلا كان سعر الكيلوغرام الواحد من الذهب 8 آلاف دولار في حين بلغ الآن 30 الف دولار، وهذا يعني ان قيمة الدولار الاميركي في انخفاض دائم.

وفي الطرف الآخر من السوق ذاتها هناك محال خاصة بالعطارة التي تضم ادوية شعبية مصنوعة من الاعشاب، وادوات الاستحمام مثل الليف المصنوع من الصوف وسائل إزالة الشعر ومساحيق التجميل المحلية والحناء الهندية والايرانية والباكستانية ومبيدات الحشرات والقوارض، وفراء الثعالب والذئاب التي كان الكرد يزينون بها جدران مضايفهم قديما، الى جانب الاكسسوارات القديمة والقبعات المطرزة بالحلي الفضية او النحاسية التي كانت النسوة الكرديات يطرزن بها صدورهن ورؤسهن وخواصرهن في المناسبات السعيدة.

ويقول الحاج «حمه كريم احمد» 67 عاما صاحب محل لبيع الادوات والمواد الفلكلورية الكردية في وسط السوق الشعبية انه يمارس هذه المهنة منذ عام 1958 وان محله ظل طوال تلك العقود الوحيد المتخصص في بيع هذه المواد مثل فراء الثعالب والذئاب والسناجب التي يشتريها هو من الصيادين القرويين باسعار لا تتجاوز 10 دولارات للفرو الواحد، ليبيعه هو بسعر مضاعف او اقل بقليل موضحا، بأن الاقبال على شراء تلك الفراء يزداد صيفا، اذ يبتاعه غالبا الكرد المغتربون كهدايا الى محبيهم في اوروبا، وكذلك الاواني النحاسية والقبعات والملابس الكردية والحلي الفضية التي كانت النسوة الكرديات يرتدينها قديما، الى جانب بعض السجادات الصغيرة التي كانت تستخدم لتزيين جدران المضايف في الريف الكردي، ويضيف الحاج احمد في حديثه لـ «الشرق الأوسط» ان الاكسسوارات التي يبيعها يعود تاريخها الى مائة عام مضت وانها صنعت من قبل متخصصين من الكرد اليهود اوائل الاربعينات من القرن المنصرم. ويبقى القول بأن جولة متأنية في اروقة وفروع هذه السوق المترامية، ستوفر لزائرها بلا عناء صورة واضحة وجلية عن الاوضاع التي كانت سائدة في سوق السليمانية قبل عقود خلت، ومهما حاول الزبون التزام البخل فسيخرج من البوابة الخلفية لهذه السوق الغريبة لا محال مثقلا بعدة اكياس مملوءة بالبضائع، وبالاسعار التي تفرض عليه رغم ارادته بعد تخفيضات المجاملة طبعا.