إيلي صعب يتألق في اليوم الثالث من أسبوع «الهوت كوتير» بباريس

في عرض غوتييه غابت الكلاسيكية وحضر الابتكار

شقاوة غوتييه.. جزء لا يتجزأ من مسيرته الفنية (أ.ف.ب)
TT

الأزمة الاقتصادية كانت أبعد ما تكون عن أذهان المصممين هذا الأسبوع، وهم محقون في ذلك، لأنه لم تعد هناك طبقات ثرية فحسب، بل هناك طبقات «سوبر» ثرية لا تطولها الأزمات. طبقات تقتني الأزياء والاكسسوارات الرفيعة، بنفس القدر الذي تقتني فيه التحف الفنية. من جهتها، أكدت الـ«هوت كوتير» بأنها مثل أبو الهول، ستبقى صامدة ولن تتعرض للانقراض، ما دامت هناك هذه الشرائح التي تجري وراء كل ما هو فريد ومتميز. يوم أمس، كان يوما آخرا موجها لهم، ومن كان منهم يريد ازياء رفيعة للنهار، فبغيته كانت عند جون بول غوتييه، ومن كان منهم يريد فساتين حالمة وباذخة للسهرة والمساء، فبغيته كانت بلا شك عند إيلي صعب. هذا الأخير أتحفنا بمجموعة تحمل كل لمساته الساحرة. مجموعة كانت اقل بريقا وأكثر تألقا. فقد خفف من التطريزات الكثيرة التي عودنا عليها، وحل محلها بريق الأناقة الفخمة، لكن من دون مبالغة. بعد انتهاء العرض قال إيلي انه لا يمكن الاستغناء عن التطريز والبريق لأنهما بمثابة ماركة الدار المسجلة، لكن إيلي لا يجيد الكلام والتسويق كما يجيد التصميم، وبالتالي ترك الكلام لإبداعاته لتحكي لنا الكثير من اسرار الجمال، وعن رحلته الشيقة مع الأقمشة التي طوعها لتصبح بنعومة الحرير، بدءا من التول إلى التافتا والمخمل. فكل فستان جاء بعدة طبقات متدرجة من حيث سمكها، تجعله مثيرا وغنيا في الوقت ذاته. فقد يكون الصدر من التول تحته دانتيل ومزين بالتافتا، فيما قد تأتي التنورة من التافتا المغطاة بالتول الذي اكتسب نعومة الموسلين وهكذا. لكن لم يكن هذا عنصر الجذب الوحيد في تشكيلته، لأن توازن تصميماته واختياره للألوان كان جد موفقا، مثل فستان سهرة رائع باللون الوردي المعتق المطرز بورود مذهبة. درجة الوردي التي اختارها مع الذهبي كانت أكثر من رائعة. تشكيلته هاته لم تترك أدنى شك بأنه ما من أحد يفهم الأناقة الرومانسية أكثر منه، وما يحسب له ثقته بأسلوبه الذي يصل إلى حد برودة الأعصاب، حتى وإن كان يبدو متوترا وقلقا قبل العرض مباشرة. بالنسبة لثقته فيستمدها من ولاء زبوناته اللواتي تشعر بحبهن له من اللحظة التي يدخلن فيها قاعات العرض. نظراتهن تكون دائما ملؤها الترقب وحماستهن لا تضاهيها إلا حماسة طفل يعرف انه سيحصل على كعكة دسمة، لن يشاركه فيها أحد. أما برودة اعصابه فتستشعرها في قدرته على مقاومة إغراءات المبالغة، ولو بإضافة تفصيل صغير لا يرى له أي جدوى سوى الإثارة. لكن برودة اعصابه هاته فيها بعض الخطورة، لأنها قد تؤدي إلى الرتابة، لكن ليس إيلي صعب هو الذي يقع في هذا المطب. فكل موسم يقدم جديدا، ليس بالضرورة لونا صارخا أو تصميما جريئا، فجديده قد يكون مجرد طيات هادئة تحول تنورة واسعة إلى وردة منغلقة على نفسها أو متفتحة، أو تقنيات جديدة تجعل الفستان ينسدل بشكل بارع من اعلى الصدر إلى الخصر فيعطيه توازنا وتميزا. إيلي، كما أكدت لنا السنوات والمواسم، لا يدعي انه يهتم بترويض الفوضى والتناقضات، فهو يعرف ما تريده زبوناته، من جهة، ويهتم بالنظام، من جهة ثانية. ومن رحم هذا النظام، أو الرؤية الواضحة، يبدع سيمفونيات، لا أحد ينكر انها تخاطب شريحة معينة، لكنها بالنسبة له الشريحة التي تهم، فهي التي تستطيع ان تدفع مبالغ كبيرة على فساتين صاغها مقصه الرشيق بالقماش والأحجار والألوان. إيلي ايضا اكد مع الوقت أنه أكثر من يفهم تعقيدات ومتطلبات موسم «الهوت كوتير»، وأكثر من يفهم ضرورة تقديم تحف تحاكي اللوحات الفنية في جمالها، لكن بواقعية، كونه يعطي المرأة دائما ازياء يمكن ان تكون اسلوب حياة، كما كانت عليه في فترة من الفترات قبل ان يطلق المصممون العنان لخيالهم الجانح، بهدف استعراض قدراتهم الإبداعية احيانا متناسين ان هناك امرأة من لحم ودم في مكان ما من الأرض ستلبسها، وليس صورة تعشعش في خيالهم فقط. في بعض التصميمات التي رأيناها على منصة العرض امس، اكد إيلي انه اكثر من رسام. فالرسام يعتمد ويتعامل مع شيء جامد، بينما كان عليه، كمصمم، ان يتعامل مع جسد متحرك، الأمر الذي يتطلب تتبعه بدقة أكبر، سواء كانت هذه الدقة على شكل طية عند الصدر أو غرزة عند الخصر أو فتحة من الجنب، وأي خلل أو نقص في أي من هذه التفاصيل، من شأنه ان يغير ديناميكية القطعة ككل. صحيح انه قد يكون بدأ رساما بوضع تصوره على الورق، لكنه انتهي نحاتا يتتبع تضاريس الجسم بأدق تفاصيله وجزئياته.

أما ابن فرنسا الشقي، جون بول غوتييه، فكــانت سيمفـــونيتــه بنغمات مختلفة تماما، وإن كان اكثر مصمم قدم تشكيلة موجهة للخريف والشتاء، من حيث استعمــاله للصوف والجلد والفرو والتويد، ومن حيث تصميماته للمعاطف المتنوعة. كونه مصمما لدار «هيرميس» العريقة بصناعة الجلود لا بد وأن يؤثر عليه، لهذا اصبنا ببعض الحيرة عند ظهور أول ثلاث قطع على المنصة، عما إذا كنا في عرض جون بول غوتييه أو عرض لدار «هيرميس». لكن، لحسن الحظ، سرعان ما تجلى اسلوب الخاص في مجموعة رائعة من ملابس النهار تتباين ما بين تايورات من التويد مفصلة على الجسم، بحيث تعانق الخصر لتتسع بالتدريج، وكأنها تحيي حقبة الخمسينات من القرن الماضي أو معاطف مفصلة على الجسم ولعب فيها على القماش، كما لو انه كان يصوغ فستان سهرة، مثل معطف ممطر باللون البيج زينه ببليسيهات متعددة عند الاكمام والأكتاف والظهر.

أما من ناحية التفاصيل، فكان الخصر كالعادة مهم بالنسبة لغوتييه، كونه أكثر من اتقن الكورسيه، وبالتالي كانت هذه الجزئية حاضرة لكن كجزء من معطف أو فستان وليس كحزام منفصل. بعد مجموعة رائعة تجمع بين الجرأة والكلاسيكية، تغير الإيقاع وارسل المصمم مجموعة اخرى تبدو فيها المرأة، أو ربما المقصود هنا أزياؤها، كطائر مسجون داخل اقفاص منسوجة من قماش ويزينها الريش، تحيط مرة التنورة، ومرة الأكتاف أو الأكمام، ومرة مجموع الجسم. فقد يكون المراد منها أيضا ان تكون دروعا تحمي ما تحتها من إبداعات. وبالنتيجة، كانت الرسالة التي أوضحها غوتييه هي أنه لا يكتفي ان يقدم ازياء عصرية ومبتكرة، لأن أي قطعة، بالنسبة له، لا تكون رائعة إلا إذا جعلت المرأة تبدو وتشعر بأنها رائعة. فكرة تقوم عليها الأزياء الرفيعة، ولخصتها تشكيلته أجمل تلخيص.

الفن والأناقة يخرجان تصاميم قد توصف بالجنون، حملت توقيع المصمم الفرنسي فرانك سوربييه (رويترز)