السعودية تدخل رسميا قائمة التراث العالمي عبر «مدائن صالح»

سلطان بن سلمان: نمتلك من المقومات الحضارية والتاريخية ما لا يملكه بلد آخر

الأثريون أكدوا أن مدائن صالح تعود للأنباط لا للثموديين («الشرق الأوسط»)
TT

دخلت السعودية أمس قائمة التراث العالمي من خلال إدراج موقع الحجر «مدائن صالح» ضمن القائمة، حيث تنافست أكثر من 41 دولة، الأسبوع الماضي، على الانضمام للقائمة الأولى على مستوى العالم، من حيث التراث العمراني، والمواقع التاريخية والطبيعية. وأعلن الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، الأمين العام للهيئة العامة للسياحة والآثار، عن اعتماد موقع الحجر «مدائن صالح»، في قائمة التراث العالمي، التي تضم أكثر من 851 موقعاً ثقافياً وطبيعياً، ذات قيمة استثنائية للتراث الإنساني، خلال اجتماع لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو في دورتها الثانية والثلاثين المنعقدة حالياً في مدينة كيبك بكندا.

واعتبر الأمير سلطان بن سلمان هذا الحدث لافتاً للانتباه العالمي، ويُمثل إقرارا عالمياً بالقيمة التاريخية الكبيرة لهذا الموقع الأثري العالمي، مشيرا إلى أهمية هذا القرار في إبراز المكانة التاريخية لبلاده، وما تزخر به من إرث حضاري كبير، ودور هذا القرار في الحفاظ على هذا الموقع وتطويره واستثماره، حيث قدمت السعودية في ملف الترشيح، خطة متكاملة لإدارة الموقع وحمايته وتأهيله، وشرعت الهيئة في تنفيذ ذلك على أرض الواقع.

وأضاف «إن الوقت قد حان ليرى العالم إرث وطننا التاريخي، ويُعرف أن السعودية تملك من المقومات الحضارية والتاريخية ما لا يملكه بلد آخر، وهو ما يستوجب نقل هذه الثقافة والحضارة للعالم أجمع، والتفاعل مع التغيرات العالمية، لكي نكون مساهمين رئيسيين في التحولات الحضارية العالمية».

وأوضح أن الهيئة، وبناء على موافقة المقام السامي، سترشح موقعين آخرين لضمهما لقائمة التراث العالمي، بعد مراعاة اشتراطات اليونسكو والأسس الفنية للضم، حيث يتم حالياً تطبيق تلك الاشتراطات على مشروع تطوير الدرعية بالتعاون مع الهيئة العليا لتطوير منطقة الرياض، ومشروع تطوير جدة التاريخية بالتعاون مع أمانة منطقة جدة.

إلى ذلك، قال زياد الدريس، سفير السعودية لدى اليونيسكو، في كلمة بلاده بمناسبة الموافقة على الإدراج في لائحة التراث العالمي، حيث توثق هذه الكلمة في سجلات مركز التراث العالمي، إن تسجيل هذا الموقع اليوم من لدن السعودية، بالإضافة إلى المواقع المسجلة مسبقا في الدول المجاورة، يُعزز القيمة التاريخية للجزيرة العربية كموطن قديم لحضارات بشرية متنوعة، وكمعبر رابط على مدى التاريخ بين حضارات وقوافل الشرق والغرب المتبادلة في ما قبل الإسلام وبعده.

وأضاف الدريس: لا أنسى هنا الإشادة بالأعمال الدؤوبة التي قام بها منسوبو الهيئة العامة للسياحة والآثار لتوظيب الموقع وتهيئته للقبول والتسجيل بإشراف واهتمام الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، أمين عام الهيئة العامة للسياحة والآثار، وإدارة ومتابعة مساعد الأمين العام للآثار والمتاحف الدكتور علي الغبان، وزملائه، والشكر أيضا لزملائي في المندوبية الدائمة السعودية لدى اليونسكو، وفي اللجنة الوطنية السعودية للتربية والثقافة والعلوم.

وتكمن منافع الانضمام إلى لائحة التراث العالمي بالانضمام إلى جماعة دولية تقدر وتهتم بالممتلكات الأثرية التي تجسد نموذجا بارزا للتنوع الثقافي في تاريخ البشرية، وأن يكون الانضمام حافزا لزيادة الوعي في الحفاظ على التراث والآثار، في الوقت الذي تستفيد فيه المواقع المسجلة على لائحة التراث العالمي من تطوير وتنفيذ خطة إدارية تعد الوسائل المناسبة للمحافظة على هذه المواقع وإدارتها، إضافةً إلى أن تسجيل المواقع الأثرية في لائحة التراث العالمي، يُلزم المنظمة الدولية توفير أي احتياج أو مساعدة طارئة لإصلاح الأضرار الناجمة عن أي كوارث طبيعية أو بيئية أو بشرية، في حين تلقى المواقع المسجلة، الاهتمام والتمويل من اللجنة المحلية والدولية لتأمين مستلزمات هذه المواقع من أجل المحافظة عليها وصيانتها.

وفي سياق الحفاظ على موقع الحجر «مدائن صالح» قامت الهيئة العامة للسياحة والآثار بتعيين مدير للموقع، و20 موظفاً على درجة عالية من التأهيل، يتولون مهام متنوعة تلبي اشتراطات منظمة اليونسكو، ويجري تدريبهم حالياً للتأكد من قيامهم بالمهام المناطة بهم تجاه الموقع، كما تم توقيع عقد مشروع ترميم وتأهيل مباني سكة الحديد بالموقع بمبلغ وقدره 4.9 مليون ريال.

وكان خبراء من منظمة اليونسكو خلال زياراتهم للموقع وتقييمه، قد وضعوا «مدائن صالح» ضمن اهتماماتهم، وهو ما قاد إلى تسجيل السعودية من ضمن الدول الأولى في القائمة التراثية التاريخية والطبيعية على مستوى العالم.

يشار إلى أن الهيئة سبق أن نظّمت معرضاً عن آثار الحجر «مدائن صالح» بمقر اليونسكو برعاية أمين عام الهيئة العامة للسياحة والآثار، الأمير سلطان بن سلمان، والمدير العام لليونسكو في باريس، في إطار تسجيل موقع مدائن صالح في قائمة التراث العالمي العام الماضي.

وكان الأمير سلطان بن سلمان، قد أكد الأسبوع الماضي في تصريحات خاصة بـ«الشرق الأوسط» تسجيل موقع مدائن صالح (أقصى شمال السعودية) ضمن قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة (اليونيسكو) للتراث العمراني، في الوقت الذي سعت فيه أكثر من 41 دولة لتسجيل ما تملكه من مواقع تاريخية وتراثية وطبيعية في القائمة ذاتها، وهو ما اعتبره الأمير سلطان قد جاء في وقته المناسب، ووصف تلك الخطوة بـ«المهمة» على مستوى المواقع الأثرية التي تملكها بلاده في عدد من جوانبها.

وتقع الحِجر «مدائن صالح» على بعد 22 كم من محافظة العُلا، وتحتل موقعاً استراتيجياً على الطريق الذي يربط جنوب الجزيرة العربية ببلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، ومنها (أي من الحجر) يتفرع طريق التجارة إلى فرعين: احدهما يتجه شمالاً إلى سلع «البتراء» وهي العاصمة السياسية للأنباط ويكون ذلك مروراً بتبوك، والآخر إلى بلاد الرافدين عبر تيماء، وهذا ما جعل مدائن صالح تُصبح عاصمة اقتصادية مهمة للأنباط ومقصداً للقوافل التجارية .

وتحتوي المنطقة على مجموعة من القصور المنحوتة في الجبال بطريقة هندسية دقيقة يصل طول بعضها إلى 21 متراً، أشهرها قصر الفريد والصانع والبنت وغيرها من الواجهات غير المكتملة النحت، وهي عبارة عن مقابر نبطية، أكدتها الحفريات العلمية والأثرية التي أجريت في المنطقة بشكل ينفي أنها ثمودية.

ورد الحجر في القرآن الكريم، في أكثر من موضع، بل إنه خُصّ بسورة تحمل اسمه وهي «سورة الحِجْر» يقول الله تعالى «ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين * وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون».

ولم تغفل السنة النبوية ذكر الحجر، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بها وهو متجهاً إلى عزوة تبوك. ويقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنه، لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي».

وثبت لدى الباحثين أن الأنباط هم أول من استوطن الحِجر «مدائن صالح» وقاموا بتعميرها. ويرى الباحثون أن أصل الأنباط من الجزيرة العربية، وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الأنباط كانوا بدواً رعاة لا يعرفون الزراعة، أي أنهم غير مستقرين، وأنهم لا يشربون الخمر، وأرضهم أغلبها صخرية وعرة.

ومن المعلوم أن الأنباط أسسوا مملكة ضخمة امتدت من عاصمتهم البتراء «سلع» شمالاً إلى الحِجر «مدائن صالح » جنوباً، ولقد كان أقدم دليل يشير إلى وجود الأنباط يعود إلى القرن التاسع الميلادي.

وكانت بداية نشأة مملكتهم في مدينة سلع والمسماة حالياً بالبتراء وهي العاصمة السياسية للأنباط، وبعدها قرروا السيطرة على طريق التجارة القديم فأسسوا عاصمتهم التجارية «الحجر».

ومن خلال النقوش النبطية المؤرخة في مدائن صالح، نستطيع تحديد العمر الزمني الذي ساد فيه حكم مملكة الأنباط، إذ أنه يبدأ من بداية القرن الأول قبل الميلاد، إلى منتصف القرن الثاني الميلادي.

وواجه الأنباط العديد من المشاكل السياسية والاقتصادية، وخصوصاً مع الامبراطورية الرومانية، وكانت أكبر تحد واجهته مملكة الأنباط، والذي أدى إلى سقوطها واضمحلالها، هو اكتشاف الرياح الموسمية في القرن الأول قبل الميلاد، والتي تسببت في اعتماد الدول وأصحاب القوافل التجارية الكلي على نقل بضائعهم عن طريق البحر الأحمر، مما أدى إلى تأثر الحجر، وهي التي كانت تعتمد على مرور القوافل من عندها وأخذ الضرائب منها.

وأثارت مدائن صالح جدلاً لم ينته بين المنادين باستثمارها سياحيا، باعتبارها من المعالم الثرية بالآثار التاريخية القديمة، وبين علماء الدين الذين قالوا إنها تعود إلى قوم ثمود، وإنها المكان الذي شهد تعذيب الثموديين، الذين كذبوا نبيهم وعقروا الناقة المعجزة، وبالتالي يجب تجنب المنطقة وعدم إعمارها حسب فتاوى دينية.

وفي هذا الصدد، رأى الشيخ عبد المحسن العبيكان، المستشار القضائي في وزارة العدل السعودية، في تعليق على هذا الجدل في وقتٍ سابق، ضرورة أهمية الاستغلال السياحي والاقتصادي لهذه المنطقة ذات الآثار الجبلية المنحوتة، والمعروفة بالحجر، وإعادة النظر في فتوى هيئة كبار العلماء حول عدم إحيائها، إذا ما تأكد ذلك من خلال دراسة أثرية وشرعية إلى أنها آثار نبطية وليست ثمودية عائدة لقوم النبي صالح، في حين أشار آخرون، إلى أن منطقة الحجر، غير معروفة جغرافيا، وليس هناك أي تحديد للمكان الذي مرّ به الرسول عليه السلام.

ويقول عالم الآثار الدكتور فرج الله يوسف إن الحجر، تمتعت بحركة عمرانية هائلة في عهد ملك الأنباط الحارثة الرابع، خلال الفترة من (9 ق.م ـ 40 م)، حتى أنها تحولت إلى عاصمة ثانية لمملكة الأنباط بعد الرقيم «البتراء»، وشيدت فيها الكثير من المقابر التي تضاهي مثيلاتها في البتراء بل تزيد عليها في بعض النواحي الفنية والتوثيقية.

وأضاف، أن العديد من مقابر الحجر مؤرخة وأقدمها مقبرة كمكم ابنة وائلة ابنة حرام المؤرخة في ديسمبر من السنة الأولى قبل الميلاد إلى يناير من السنة الأولى الميلادية، مرورا بمقبرة الطبيب كهلان بن وائلان المؤرخة في أبريل ـ مايو سنة 26 م، وصولاً إلى مقبرة القائد ترصو بن تيم المؤرخة في سنة 64م.

وأوضح يوسف أنه رغم سقوط مملكة الأنباط على أيدي الرومان سنة 106م، إلا أن تشييد المقابر على الطراز النبطي استمر في الحجر لفترات طويلة بعد سقوط المملكة، وقال «إن كل ما في الحجر مقابر، بالإضافة إلى المنطقة الدينية المتمثلة في الديوان وقصر العجوز، أما المنطقة السكنية فما زال البحث عنها مستمرًا».

ويؤكد الدكتور يوسف أن الحجر بما تضمه من مواقع أثرية مختلفة منها المقابر، والقلعة الإسلامية، ومحطة سكة حديد الحجاز إلى جانب قربها من العلا «دادان» وما تضمه أيضا من مواقع أثرية ترجع إلى عصور ما قبل الإسلام وبعده، يجعل المدينتين من أهم مناطق الجذب السياحي في المملكة ويؤمن لهما بالتالي مكانة اقتصادية كبرى.

من جانبه أكد الدكتور خالد أسكوبي، أن المنطقة بالغة الحيوية والأهمية إذا ما تمّ استغلالها سياحيا لتنشيط الموارد الاقتصادية للدولة، وقال «كل الحفريات الأثرية التي أجريناها في مدائن صالح، أثبتت أن المنطقة نبطية وأن الواجهات المنحوتة في الجبال ، ليست ثمودية وإنما هي مقابر نبطية أشارت إلى ذلك النقوش والكتابات عليها.

وأضاف «بعد ثلاث حفريات أثرية لم نعثر على دليل أثري يعود إلى قوم صالح»، مشيرا إلى أن هناك رأيا ضعيفا لا يؤيده أي دليل أثري أو علمي بأن بعض الواجهات غير المكتملة في النحت تعتبر ثمودية، وقال «إنه رأي مستبعد».

ويحوي الموقع مقابر ضخمة مصونة بشكل جيد تعود واجهاتها المزخرفة إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويقع على مسافة 500 كلم جنوب شرق البتراء، ويضم نحو خمسين نقشا من الحقبة التي سبقت فترة الأنباط، وعددا من رسوم الكهوف.

ويشكل موقع الحجر شهادة فريدة عن حضارة الأنباط، وتعد مقابره الضخمة البالغ عددها 111 مقبرة، زين معظمها بالزخارف، إضافة لآباره المائية، نموذجا استثنائيا للإنجازات المعمارية للأنباط وخبراتهم الهيدرولوكية.