الأبراج السكنية تجتاح ذاكرة بيروت وروائعها الهندسية

المباني التراثية تعاني من هوس الاستثمار

تعاني بيروت من استمرار بناء الأبراج الحديثة على حساب الحدائق والمعالم التراثية («الشرق الأوسط»)
TT

من شارع عبد الوهاب الانجليزي الى الجميزة والصيفي (في شرق بيروت)، من محيط وسط بيروت التجاري الى حي القنطاري ومنطقة رأس بيروت (في غرب العاصمة)، باقات من الابنية التراثية الشاهدة على الحضارات المتعاقبة على بيروت من عربية وعثمانية وأوروبية تختفي من الوجود بفعل الزحف المتسارع للابراج السكنية الحديثة التي تستهدف التجارة البحتة من دون اعطاء الطابع الجمالي والتراثي اي اهتمام، حتى يكاد هذا الوضع ينطبق عليه المثل اللبناني القائل: «بادل الغزلان بالقرود»، على حد قول احد المهتمين بحماية التراث والمواقع الطبيعية.

وتقول الناشطة في هذا الحقل المهندسة منى حلاق: «جميع المستثمرين مهوسون بالابراج. وطلاب السكن ايضاً، حتى يتمتعوا برؤية البحر. وهذا التوجه يغري المالكين ببيع عقاراتهم مستفيدين من ارتفاع اسعار الاراضي واغراءات المستثمرين من دون ان يدروا أنهم يملكون تحفاً معمارية لا تقدر بثمن».

ومع هدم المنزل التراثية لا يسقط جزء من ذاكرة بيروت فحسب، بل تزول معه الحدائق النضرة التي تحيط بهذه الدور، وهي آخر ما تبقى في العاصمة من فسحات خضراء، وتغيب آخر اشجار العاصمة المعمرة، والتي يعود بعضها الى مئات السنين، حتى ان احداها التي تقع في «حي السراسقة» ـ او ما يعرف بـ«حي الذوات» ـ يقدر عمرها بألفي سنة.

وبعدما نالت المنطقة المحيطة بوسط بيروت وحي القنطاري ورأس بيروت وتحديدا الواجهة البحرية الممتدة من عين المريسة الى المنارة، نصيباً من «المجازر التراثية» في مراحل سابقة، تتركز «غزوات» المستثمرين اليوم على حي الجميزة، وحي السراسقة والحمرا بصورة خاصة، وهما الحيان اللذان كانا يتمتعان بهدوء مميز في العاصمة الصاخبة، فإذا بأحدهما يعيش الصخب الليلي (الجميزة) مع انتشار المطاعم والملاهي والمقاهي التي غزت الطبقات الاولى من الابنية التراثية، بعد ظهور اكثر من برج في محيطه، والآخر (حي السراسقة) الذي فقد هدوءه كلياً مع تواصل هدير البلدوزرات والحفارات وشاحنات نقل الردم، واستمرار «تفريخ» الابراج الجديدة على حساب الحدائق الرائعة ومعالم التراث من قناطر ونوافذ مؤطرة بالصخر ومداخل عالية يعلوها الزجاج الملون، وتصل اليها عبر ممرات الزهور واحواض الماء التي تتوسط تلك الحدائق، المسوّرة بالاشجار المعمرة. ولم يتبق في هذا الحي سوى 5 مبان تراثية احدها متحف سرسق الذي سينتصب في محاذاته برجان قيد التنفيذ حالياً.

وتقول ايفون سرسق كوكران ـ التي سمي الحي باسم عائلتها التي سكنته منذ مجيئها من فلسطين: «المؤسف ان القيمين على الحركة المعمارية يتمثلون بالمدن الحديثة التي لا ذاكرة لها ولا تاريخ. في حين ان لبنان خزان تراث وحضارة مثل روما وباريس وفيينا ولندن، وحتى صنعاء وواشنطن. ولكن الفارق بين بيروت وهذه المدن ان هذه الاخيرة تتمدد خارج البقع التاريخية في حين تنهض ابراج بيروت على انقاض تراثها وذاكرتها». وتضيف: «القيمة في المدن التاريخية ليست للارض، بل لما عليها من تراث وشواهد تاريخية حضارية. والمضاربة تتم على البناء وليس على الارض، حتى يمكن ان يصل سعر المبنى التراثي إلى اضعاف الابراج السكنية. اما المضاربة على الاراضي فيمكن ان تحصل في الضواحي وامتدادات المدن التاريخية».

وتقول سوزان حمزة التي كانت تقطن منزلا يعود الى عام 1930 انها فعلت المستحيل لإنقاذه عندما قررت عائلتها بيعه، «لكنني فشلت في تحويل منزل العائلة الى متحف للاقمشة فسقط في ايدي من يسمونهم اليوم المطورين العقاريين».

وقبل اشهر قليلة وقعت مجزرة تراثية في حي القنطاري المجاور لبرج المر، حيث ازيلت مجموعة من المنازل ذات الشرفات المطرزة كالدانتيل والزجاج الملون، والأعمدة الرخامية. وبالتوازي ازيل ما تبقى في «وادي ابو جميل» من بيروت رائعة الهندسة كان يقطنها اليهود اللبنانيون. لكن المسؤول الاعلامي في شركة «سوليدير» نبيل راشد اكد لـ«الشرق الاوسط»: «ان الشركة ملتزمة باعادة بناء الابنية التي هدمتها بما فيها الكنيس اليهودي لأن الوضع الذي كانت عليه هذه الابنية كان يهددها بالسقوط. ومعلوم ان سوليدير حافظت على الكثير من المنازل التراثية في وسط بيروت ورممتها وأبرزت معالمها».

ويقول رئيس «جمعية تنمية الجميزة» جوزف رعيدي لـ«الشرق الاوسط»: «لقد رفعنا الصوت طويلا ضد رخص الابراج التي منحت في منطقتنا لتقوم محل الابنية التاريخية التي تشهد على تاريخ بيروت وعراقتها. ولكن الصرخة ظلت في واد. ثم سعينا لأن نجعل من الجميزة مثل حي (مونمارتر) الباريسي بمقاهيه الهادئة وصالات العرض الموجودة فيه، لكن الصخب سرعان ما انتقل الينا ليجرف معه ليس الابنية التراثية فحسب، بل الهدوء والسكينة والطمأنينة التي كان ينعم بها اهل المنطقة على مدى عشرات السنين».

وتضم المنطقة في شارعيها ـ غورو وباستور ـ بحسب دراسة اعدها «مجلس الفندقة والسياحة» (هوديما) اللبناني، 64 مؤسسة سياحية، اي ما يوازي ثلاثة اضعاف ما كانت عليه قبل خمس سنوات. بالاضافة الى عدد من المباني الحديثة التي نبتت على انقاض البيوت التاريخية.

واذا كان للمالك منطقه، وللمهتم بالتراث منطقه، فإن المستثمر والمعماري لهما منطقهما ايضاً وان كان يبطن شهوة الربح. ويقول مهندس احد الابراج في حي السراسقة جهاد خيامي: «انا اتفهم دوافع المالكين. اسعار الاراضي ارتفعت بشكل جنوني وهم غير قادرين على استثمار ارضهم ولا هم يقدرون قيمة ما يملكون من روائع هندسية، لذلك يفضلون البيع لمن هم قادرون على استثمار الارض الى اقصى حد، خصوصاً ان الطلب على الشقق الفخمة يتزايد على الدوام، حتى ان المشروع الذي ننفذه حالياً بيع بأكمله تقريباً قبل ان يظهر على الارض».

تجدر الاشارة الى ان القانون الوحيد الذي يحمي المباني التراثية في لبنان يعود الى عهد الانتداب الفرنسي في عام 1933، لكن هذا القانون يحمي الابنية التي يعود تاريخها الى ما قبل عام 1700 فقط، مع العلم ان هناك دراسة حكومية صنفت نحو 250 مبنى تراثياً في بيروت في عام 1977 إلا ان وزير الثقافة طارق متري يعتبر «ان هذه اللائحة تجاوزها الزمن، وبالتالي لا تندرج فيها مبان تستحق الذكر». ويشدد على «عدم معاقبة المالكين لأنهم يملكون منزلاً تراثياً»، مشيراً الى انه اقترح مشروع قانون ينص على إعفاء مالكي المنازل التراثية من الضرائب ورسوم التسجيل، وقد تم اقرار هذا المشروع في مجلس الوزراء ولا يزال ينتظر المصادقة عليه في مجلس النواب.