مصر: نساء يتمردن على الرجل و«نون النسوة»

يقدن شاحنات ويعملن بالجزارة والحلاقة

a نساء يعملن بالجزارة وحلاقة الرجال (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

إنه نوع آخر من التمرد، ليس فقط على واقعهن، ونظرة المجتمع القاصرة إليهن، بل على دوائر «نون النسوة» وأنساقها التي غالبا ما تتسم بالرخاوة والهشاشة بخاصة من وجهة نظر الرجل. عبير (31) عاما اختارت أن تمارس مهنة الجزارة التي تبعد كل البعد عن الأنوثة، فقوامها تماسك الأعصاب وقوة العضلات التي تمكنها من حمل الذبائح وتعليقها وتقطيعها وتخليتها من العظم.

لم يكن الأمر سهلا على عبير «فإمساك سكين المطبخ لإعداد الطعام يختلف عن إمساك ساطور، ولكني ورثت هذه المهنة عن عائلتي فوالدي وأعمامي وأخوالي كلهم جزارون، وأعمل بالجزارة منذ 15 عاما كما تساعدني أختي الصغرى في محلي الكائن بمنطقة الهرم في محافظة الجيزة، ولولا هذه المهنة لما استطعت أن أعيش خاصة بعد وفاة زوجي الذي كان يعمل جزارا أيضا منذ عامين».

يبدأ يوم عبير في الخامسة فجرا ويستمر إلى ما بعد صلاة العشاء، تشتري الماشية من السوق ثم تذهب بها للمذبح، على هذا المنوال منذ 15 عاما عندما أمسكت يدها بأول ساطور «وقتها لم أواجه أية مشكلة ولم ترتعش أوصالي كما يظن البعض بل شعرت بالفرحة لأنني ورثت مهنة أجدادي وأصبحت جديرة بها».

عبير تشدد على أنها اليوم باتت أمهر من الماضي في اختيار الماشية الصالحة للذبح وهو ما أكسب محلها شهرة واسعة وتقول «كنت أختلف مع زوجي كثيرا حول جودة الماشية التي يجلبها للذبح، وبمرور الوقت اقتنع بصحة موقفي وترك لي تلك المهمة تماما».

عبير لديها طفلان، أحدهما في المرحلة الابتدائية وقد أصرت عبير على أن تدخله مدرسة ( لغات أجنبية ) وبررت ذلك بقولها: «رغم المصروفات الباهظة للمدرسة لكنني أريده أن يحصل على أعلى الشهادات العلمية باللغات الأجنبية، وإن كان ذلك لن يمنعه من التواجد معي في المحل».

تؤكد عبير أن ابنها البالغ من العمر 6 سنوات يستطيع الآن أن يذبح خروفا لأنه كان ينزل مع والده إلى المحل منذ سن ثلاث سنوات ونصف السنة.

رغم أن عبير لم تكمل تعليمها، إلا أنها تستطيع القراءة، وتشتري الجرائد يوميا للإطلاع على أخبار مصر والعالم، وتحب أكثر صفحة الحوادث.

تضحك عبير كثيرا عندما أربط بين صفحة الحوادث والساطور الذي اعتادت أن تمسك به أكثر من مبرد الأظافر فتقول: «مهنة الجزارة لم تفقدني أنوثتي أو تجعلني متحجرة القلب، فمثلها مثل مهن أخرى كثيرة اعتاد العاملون فيها على مناظر الدم، ولكن في النهاية الجزار بني آدم له قلب وإحساس».

قصص التمرد على النمط الأنثوي في العمل لم تقتصر على الجزارة فهناك أم رانيا (52)، التي قضت نحو 35 عاما في قيادة عربات النقل الثقيل ما بين المحافظات المصرية وامتدت رحلاتها إلى حدود مصر مع ليبيا.

تحكي أم رانيا بفخر: «التحدي كان العامل الوحيد في اختياري لهذه المهنة التي تتطلب مواصفات خاصة. أردت أن أتحدى أخوتي وعائلتي الصغيرة بعد أن توفى والديّ وقرر القدر أن يجعلني من يتحمل مسؤولية الأسرة».

وتستعيد أم رانيا البدايات الأولى فتروي قائلة: «البداية كانت مع عربات النقل الخفيف والتاكسي المتنقل بين المحافظات الإقليمية، وبمرور الوقت وجدت أن مهنة العمل كسائق على شاحنة كبيرة أكثر ربحا ولكن القرار كان مجازفة في مجتمع رجولي لم يعتد اقتحام المرأة لهذا النوع من المهن، لكن التحدي والحفاظ على السمعة الحسنة بين الجميع كان شهادة مروري لهذا العالم الرجولي جدا». أم رانيا لديها ابنتان، إحداهما مهندسة.

تقول أم رانيا عن زوجها وهو ضابط برتبة عقيد «لم يمنعني عملي من أن أحب وأتزوج رجلا في وضع اجتماعي مرموق لأن احترامه لي كإنسانة مكافحة أول ما جذبه إلي، ولم يطلب مني في يوم من الأيام أن اترك مهنتي فقد كان ذلك شرطي الرئيسي للزواج». وتصف أم رانيا قيادة سيارات النقل الثقيل بأنها عادية وترى أن أهم ما يجب أن يتميز به سائق النقل سرعة البديهة وذلك للتعامل مع أي موقف طارئ خاصة إذا كانت السيارة محملة ببضائع.. فقد واجهت الموت عشرات المرات لكن ربنا ستر.

تعتبر أم رانيا نفسها ناجحة للغاية في عملها وتقول «لم ارتكب مخالفة واحدة في حياتي، وبشكل عام السيدات اقل من يرتكب أخطاء في القيادة قياسا بتهور الرجال، وملفي في المرور نظيف تماما، وأسعى حاليا بعد أن قضيت عمري في العمل على سيارات الغير أن تكون لي سيارتي النقل الخاصة». في خضم هذا المشهد هناك أيضا شيماء ومها اللتان تعلمتا تعليما متوسطا وورثتا عن والدهما محلا لحلاقة للرجال، مثقلا بالديون.. وبعد أن ظل المحل مغلقا لفترة طويلة قررتا أن يعود لدولاب العمل. وبالفعل استعانتا بأحد الرجال من ذوي الخبرة، وتعلمتا منه مهنة الحلاقة. ثم بدأتا إدارة المحل وحدهما تماما. المحل يلقى إقبالا شديدا من الرجال بحي عابدين في وسط القاهرة، ولا يخلو الأمر من تعرض الأختين الجميلتين للغزل العفيف من بعض الزبائن. فكما يقول أحدهم «الأيدي الناعمة أحن على البشرة والشعر من أيدي الرجال».. تعلق شيماء: المهنة صعبة وحساسة، وكنا في البداية نخشاها، لأنها مقصورة على الرجال. لكن مع مرور الوقت أحببناها، وأصبح المحل مزدحما بالزبائن الرجال، والكثيرون منهم أصبحوا أصدقاء لنا.. وتضيف مها: أنا الآن أحب هذه المهنة، ومعظم أوقاتي أقضيها بالمحل، وأتمنى أن تخوضها نساء أخريات، فهي مهنة جميلة ومربحة، تعتمد على أصابع حساسة تعشق الجمال والفن.

طورت الأختان أساليب العمل في تلك المهنة بإضافة بعض «المصكات» الخاصة بترطيب وتغذية البشرة .. وكما تقول شيماء «كان لابد أن تكون لنا بصمتنا الخاصة والحمد الله نجحنا في ذلك، ونسعى إلى المزيد».