بورسعيد.. منطقة حرة لا ترغب في استعادة حريتها

«هبة قناة السويس» التي لا تعرف مهنة سوى التجارة

مبنى هيئة قناة السويس («الشرق الأوسط»)
TT

ابتسمت إيلينا وهي ترتشف فنجان القهوة في جلستها أمام مطعم «جيانولا» العتيد مؤكدة أن الصباح في بورسعيد مختلف عن غيره في أي منطقة أخرى من العالم.. ايلينا اليونانية التي ولدت في بورسعيد قبل أكثر من خمسين عاما ولم تغادرها إلا أياما معدودات تعتبر نفسها مصرية من أبويين يونانيين. تشير إلى منزل خشبي جميل على الطراز الفرنسي قائلة: «هنا ولدت وهنا عشت وهنا أيضا سأموت»، تقضي «إيلينا» صباحها على مقهى «جيانولا» الذي كان يمتلكه عجوز سويسري في شارع الجمهورية شرق بورسعيد على بعد خطوات قليلة من المدخل الشمالي لقناة السويس.

وتتابع إيلينا اليونانية وهي تراقب النادل الذي بدأ في تقديم المشروبات لمنضدة مجاورة: «جاء جدي من اليونان للعمل كإداري في هيئة قناة السويس، أما أبي فعمل في تجارة المنسوجات وكان واحدا من كبار تجار بورسعيد في الخمسينيات».

«بورسعيد هبة قناة السويس».. فقبل أكثر من قرن ونصف القرن.. وبالتحديد عام 1859 أنشأها عراب مشروع حفر القناة فرديناند ديلسيبس على بعد (200 كيلومتر شمال شرقي القاهرة) بعد أن مد إليها أنابيب المياه العذبة من دمياط والمناطق المجاورة، وبدأ وصول السكان من الأجانب الذين عمل أغلبهم في التجارة وتشغيل هيئة قناة السويس وتسيير السفن في حين كان الوافدون المصريون عمال سابقين في حفر القناة.

جذب جمال مسعود المذيع بإذاعة القناة نفساً من سيجارته الأجنبية وهو يشير شرقا إلى حي الإفرنجي قائلا: «بورسعيد شهدت منذ البداية تجاذبا ثقافيا بين المصريين والأجانب وتجلى ذلك في تقسيم المدينة الجديدة إلى حيين سكنيين هما حي الإفرنجي الذي تسكنه الجاليات الفرنسية واليونانية والانجليزية والتركية في مقابل حي العرب الذي كان يسكنه أهل بورسعيد، وكان يفصل بين الحيين شارع محمد علي الذي يقسم المدينة إلى نصفين». ورغم التفاعل بين أبناء الثقافات المختلفة تحت سماء بورسعيد إلا أن البورسعيدي منذ بدايته كان يعشق تراب أرضه ويعتز بمصريته. لذلك ـ وبحسب مسعود ـ كان يطلق على النادي الرياضي في حي العرب ـ ولا يزال ـ اسم النادي المصري البورسعيدي تعبيراً عن الارتباط بالوطن، بل وكانت الشخصية الرئيسية في المزاج الوطني تتسمى بالعربي أو (أبو العربي) إمعانا في التعبير عن الارتباط بالجذور رغم تعاطي التراث الشعبي لهذه الشخصية على نحو طريف وإظهارها على أنها تهوى الادعاء والزعم بخلاف الحقيقة طمعا في إحساس زائف بالجاه والرفعة. طوال القرن العشرين ازدهرت في بورسعيد مهنا لها طابع خاص أبرزها «البمبوطية» وتعنى تجارة الترانزيت التي تتلخص في قيام المراكب الصغيرة التي يبحر بها البمبوطية (تجار الترانزيت) نحو السفن الكبيرة الرابضة عند مدخل القناة حيث يتم بيع وشراء المنسوجات والملابس والسجائر والأنتيكات (التحف القديمة)، إضافة إلى المهنة الأصلية لأغلب السكان وهي الصيد، الذي حوله البورسعيدية إلى ملحمة من المتعة والغناء على أوتار السمسمية.

أثر التقسيم الثقافي بين أهل المدينة على علاقة العرب بالغرب وتجلى ذلك في رفض بورسعيد الاحتلال الانجليزي لمصر عام 1882 ومقاومته بشراسة، وكانت ثورة 1919 فصلا آخر من فصول الرفض البورسعيدي للاحتلال إذ خرجت مظاهرات بورسعيدية ـ شارك فيها اليونانيون أيضا ـ تندد بنفي زعيم مصر سعد زغلول وسقط الكثير من الشهداء في شوارع المدينة برصاص المحتل الانجليزي.

وواكبت بورسعيد قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس بفرح وقلق ودهشة، ولم تفق من دهشتها إلا على أصوات قذائف العدوان الثلاثي (الفرنسي الانجليزي الإسرائيلي) عليها في عام 1956 وسطرت المدينة فصولاً رائعة من الصمود ومقاومة العدوان حتى رحل المعتدون في 23 ديسمبر (كانون الاول) من نفس العام وأصبح ذلك اليوم عيداً قومياً لمصر كلها، وللمدينة.

ولم تتوقف معاناة المدينة الباسلة كما يسميها المصريون عند أحداث العدوان الثلاثي فما لبثت أن فقدت جناحها الشرقي باحتلال بور فؤاد ضمن احتلال سيناء في يونيو (حزيران)1967 وتم تهجير مئات الأسر البورسعيدية إلى مدن الدلتا واستمرت المقاومة وحرب الاستنزاف وكانت معركة رأس العش وتدمير المدمرة الإسرائيلية «ايلات» علامات مضيئة على طريق نصر أكتوبر1973 الذي عاد بعده أهل بورسعيد إلى مدينتهم ليبدأ فصل هام من تاريخها يبدو أنه لم ينته بعد.

في شارع الملكة أوجيني وعلى مقهى سماره الشهير، اعتدل البدري فرغلي عضو مجلس الشعب السابق عن حزب التجمع التقدمي المعارض في جلسته وتمتم يائسا «بورسعيد .. كمدينة حرة أنشئت بقرار صدر بعد حرب أكتوبر ثم قُضِيّ عليها بقرار مماثل» (يقصد قراري الرئيسين السادات ومبارك فبينما تحولت بورسعيد إلى مدينة حرة بموجب قرار للأول تم إلغاء هذا الوضع بموجب قرار للثاني). يرى فرغلي أن «السادات كان مدفوعا بتداعيات مرحلة التسوية مع إسرائيل لبناء حائط بشري إداري لمنطقة القناة للتخلص من حالة الحرب»، لكن جمال مسعود في المقابل يرفض هذا الكلام معتبرا «أن السادات أراد بقراره مكافأة بورسعيد على صمودها وتحملها لمعاناة الاحتلال والتهجير».

كان صدور القانون 12 القاضي بتحويل بورسعيد لمنطقة حرة نقطة تحول هامة في تاريخ المدينة. يراها البدري فرغلي سبباً في تدهور المجتمع البورسعيدي ومروره بتحولات رهيبة «المنطقة الحرة عصفت بسمات المدينة، لقد محت كل ما كانت تتمتع به بورسعيد من مميزات خاصة في علاقتها بالبحر وقناة السويس والسفن التي تمر بها وتجارة الترانزيت والصيد». وتابع: «التجارة أصبحت الطابع الوحيد للمدينة، فخرج جيل لا يجيد عمل أي شيء سوى البيع والشراء، فقدنا جيلا من الحرفيين والمهنيين والمبدعين والمشتغلين بالفن والسينما والمسرح لصالح المناداة على مشتر في السوق والاستيلاء على ماله». ويعترف مسعود أن «ثمار المدينة الحرة ذهبت إلى جيوب الرأسماليين»، معتبرا أنه رغم ارتفاع مستوى المعيشة إلا أن المقابل كان باهظا في انتشار التسرب من التعليم لصالح البيع والشراء في السوق وفرض السلوك التجاري على منظومة القيم داخل المدينة.

ينظر فرغلي إلى الشارع المواجه عبر نافذة المقهى ويقول متجهما «المنطقة الحرة كانت تعتمد على الزائرين من كل محافظات مصر، وعندما فتحت الحكومة أبواب الوارد إلى جميع محافظات الجمهورية، أصبحت أصغر قرية مصرية بها بضاعة تضاهي بضاعة بورسعيد، فتوقف الزائرون عن المجيء، وكانت النتيجة المباشرة انتشار البطالة وارتفاع معدل الجريمة وتفشي مظاهر التطرف الأمر الذي يتزايد ويتغلغل في ثنايا المجتمع البورسعيدي مع اقتراب موعد إلغاء المنطقة الحرة».

فاجأني مسعود بإظهار سروره لإلغاء المنطقة الحرة، أدهشني فرحه خاصة بعد رؤيتي لعشرات اللافتات في كل نواحي المدينة تطالب السلطة بمد العمل بالمنطقة الحرة، قرر أن ينهي حالة الدهشة بقوله: «بورسعيد منطقة حرة بحاجة لاستعادة حريتها...المدينة مخنوقة بين منافذ الجمرك التي خلقت حصارا دائما على المدينة». ويطالب مسعود بالتحول نحو الصناعة والمشروعات الصغيرة والتوجه للزراعة عبر تجفيف بحيرة المنزلة والاستفادة من ميناء بورسعيد وإطالة الظهير العمراني إلى الكيلو 40 من طريق بورسعيد ـ إسماعيلية بموازاة شط القناة، إضافة إلى تطوير المجتمع التعليمي عبر إنشاء جامعة في بورسعيد. المطلوب كما يقول مسعود «تحويل بورسعيد إلى كيان صناعي زراعي تعليمي تجاري وعدم الاقتصار عل الاستيراد فقط كمهنة وحيدة يعمل بها أهل المدينة».

يبدي فرغلي دهشته من هذا الكلام مؤكدا أن «وعود الحكومة دوما في الهواء، فبعد صدور قرار إلغاء المنطقة الحرة كان الحديث يدور حول إنشاء صندوق استثمار بقيمة 3 مليارات جنيه مصري لتمويل المشروعات الصناعية والخدمية لتنويع محاور التنمية بالمدينة، لكن أي شيء من هذا لم يحدث، مؤكدا أنه لا يوجد مصنع واحد في بورسعيد الآن تحت الإنشاء، بل تحولت المدينة على يد كبار رجال الأعمال من استيراد الملابس والبضائع إلى استيراد «الصناعات القذرة» غير المرغوب فيها في الولايات المتحدة وأوروبا»، مشيرا إلى أن بورسعيد صارت الآن مصدر جذب لمصانع الكيماويات والمنظفات والبويات والتي تم بناؤها داخل أو على مشارف الكتل السكانية. «وعندما طالبنا ـ والكلام لفرغلي ـ بنقل هذه المصانع خارج المدينة هددنا مسؤولوها بطرد أبنائنا العمال وتشريدهم أو صرف معاشات هزيلة لتكميم الأفواه».

وبنبرة يملؤها الأسى واصل نائب البرلمان السابق حديثه: «بورسعيد الآن تواجه انتشاراً رهيباً لأمراض السرطان والفشل الكلوي وفيروس الالتهاب الكبدي سي، ولا توجد سلطة في المدينة اليوم تواجه هذا «العدوان الثلاثي» الجديد، فالعدوان في عام 1956 كان معروفا وواضحا وتمكنت بورسعيد من مقاومته ودحره لكن اليوم لا نستطيع عمل أي شيء، ولا يوجد ما يبشر بالخير».

وفي سوق الحميدي الشهير بوسط بورسعيد انتشرت لافتات المناشدة بمد المنطقة الحرة لعدة سنوات أخرى حتى يمكن للتجار التصرف في بضائعهم، يقول أنسي الخواجة (تاجر ومستورد) «إلغاء المنطقة الحرة قرار لا مفر منه طبقا لاتفاقية الجات، لكن بورسعيد بلد تجاري محض يعتمد رأس ماله على المنطقة الحرة في وقت لم تتوفر فيه بدائل مناسبة لآلاف من العاملين بالتجارة»، مؤكدا أن حجم استيراد بورسعيد سنويا لا يتعدى 58 مليون دولار وهو رقم لا يساوي حصة استيراد تاجر واحد من القاهرة.

ويضيف الخواجة «الرابحان الوحيدان من القرار المزمع تنفيذه هما البطالة والجريمة» أما صابر (تاجر أحذية) فقال: «أموال التجار لا تزال في السوق والبعض يستدين من أجل الاستمرار في التجارة، لذا هناك ضرورة ملحة لتأجيل قرار إلغاء المنطقة الحرة رحمة بالأبناء والشباب الذين ترك معظمهم العمل تحت وطأة الكساد والحاجة لتقليص النفقات بسبب القرار المنتظر تنفيذه في شهر يناير (كانون الثاني) المقبل».

ويأتي صوت محمد عبد الفتاح رئيس الغرفة التجارية ببورسعيد واضحا معلنا رغبة التجار في مد العمل بالمنطقة الحرة حتى ديسمبر (كانون الاول) 2011 مع تخفيض رسوم المدينة الحرة إلى 3.5% ومنح مسموحات جمركية لزوار المدينة في حدود 100 جنيه لكل زائر، ومطالبا ببعض الإصلاحات الأخرى مثل تفعيل إنشاء صندوق لتمويل المشروعات، وتشغيل مطار بورسعيد لتنشيط الحركة السياحية، والتركيز على السياحة والميناء باعتبارهما أنشطة سريعة العائد فضلا عن تناسبها مع بورسعيد من حيث الموقع والخبرة وكثافة العاملين بالنشاط التجاري الذي يصعب تحويلهم إلى أنشطة أخرى.

مالت الشمس للمغيب على منفذ الرسوة إيذانا بالخروج من المدينة التي يبدو أنها تعيش يوما بيوم انتظارا لقرار آخر قد يعيد للمدينة رونقها وفرحها وهي المدينة التي كانت لحظات الفرح فيها عبر تاريخها، الذي يمتد لقرن ونصف من الزمان، قليلة وباهتة.