معرض جديد للفنان كريم الأسدي في لندن

اختبار هارمونيا الألوان إلى أقصى حدودها

TT

افتتح الرسام العراقي كريم الأسدي الأسبوع الماضي، معرضه الجديد في قاعة غاليري «بوسك» بمنطقة هامرسميث اللندنية. ويعود الفنان الأسدي هنا مرة أخرى مثلما هو الحال في معرضه السابق «مكان آخر» إلى تناول عناصر البيئة كمادة أولية، وخصوصا الأشجار والنباتات والسطوح والمجسمات المحيطة بنا. لكنه في هذا المعرض، يجعلنا نتلمس تدريجيا ضوءا متدرجا في انبعاثه، يتسرب إلى السطح من تحت ركام الألوان الباردة الأخرى.

في لوحة «مشهد احتراق» هناك احتراق يخترق أكداسا من الأحراش المتلبسة بألوان تتدرج من الأخضر مرورا بتدرجات من الزرقة، وهذه النار التي قبض الرسام الأسدي عليها عبر ألوان حارة مثل الأصفر والأحمر والبرتقالي، تمتلك القدرة مع تشابكها بتلك الألوان المتعارضة، بتفجير فيض من المشاعر. لعلها تعبير عن ذلك الأمل الذي ينبعث من تحت ركام درجات من الزرقة الباهتة.

الأمل نفسه يصبح موضوعا، ولا أعني فقط من خلال عنوان المعرض الذي حمل اسم «التقرب الى امل» بل اللوحة نفسها التي حملت هذا العنوان. إنها سيمفونية ألوان تقترب كثيرا من تقاليد فن المنمنمات الإسلامية، لكنها من دون قيود التكرار الذي يحكم هذا الفن. هنا نجد قدرا عاليا من الحرية لكنه محكوم بقانون الهارمونيا: توليف الألوان المتعارضة عبر مساحات لونية مختلفة في حجومها بأخرى متآلفة معها وبتقنية تنم عن حرفية عالية.

هنا تتفاعل شرائط زرقاء وأرجوانية ونيلية تندفع بطبيعتها إلى الوراء مع ألوان حارة تتحرك إلى الأمام مثل الأصفر والأحمر، لتمنح عمقا مدهشا للوحة. كم ذكرتني هذه اللوحة ببعض أعمال سيزان، مع اختلافها الكامل عنها في مجال كسر المنظور وإحلال تضاد الألوان الحارة والباردة لتمنح بعدا ثالثا للوحة وتجعلها مجسمة من دون استخدام المنظور. كان بودي لو أن المعرض الذي ضم 24 لوحة ارتبط بتيمة واحدة هي الضوء، وعلاقته مع مساحات العتمة التي تغلفه. لكن حسبما قال الفنان كريم الأسدي لي فإنه اختار هذه الأعمال من بين أكثر من 800 لوحة. وبالتالي فهو لم يكن محكوما خلال فترة معينة باستكشاف فكرة فنية واحدة على سطوح القنفاص، ولعل هذا ما جعل المعرض متعدد التيمات، مما لا يمنح الفرصة للمشاهد كي يستغرق في معالجة لونية متنوعة لفكرة واحدة. في لوحة أخرى تحمل اسم «أشجار الصفصاف الباكي» تنبثق شجيرات ثلاث متعرشة فراغ اللوحة بشكل متواز لكن هناك حلّ بينها ضوء شاحب مفتت كأنه أقرب إلى الضباب لحظة تفككه أمام الشمس. وكم ساورتني الرغبة في مسك ذلك النور الذي بدا كأنه مسحوق سحري غلف مشهد الشجيرات بأمل ما.

تمكن كريم الأسدي من أن يطور في مختبره الفني رؤية جديدة، سمحت له بفتح باب جديد للمغامرة الفنية. فانتقالا من معارضه السابقة، ظل هناك تقلص مستمر للمادة الخارجية على حساب المعالجة اللونية التجريدية. ففي معرضه ما قبل السابق «المكان الأول» عام 1995 قدم لنا الأسدي عالم الأهوار الذي عاش طفولته وصباه فيه. لكن المعالجة ظلت ذات طابع ستاتيكي. فكأن الزمن الذي يحاول أن يمسكه الفنان كريم متجمد عبر نسيج لوحاته. وكأنه الآن يصل في معرضه الأخير إلى علاقة التوحد باللحظة خارج مقتضيات الذاكرة.

ومن هنا يصبح للأمل مكانه في عيش اللحظة وكأنها زمن لا نهاية له، معارضا حركة تلك القوى التي تسعى إلى تدمير الفرد من الداخل.