تنويعات لونية في معرض التشكيلية هالة الخليفة بلندن

«نوافذ الفراق».. الأول للفنانة البحرينية بعد انقطاع أكثر من 7 سنوات

عمل يدعى «العزلة»
TT

استضاف غاليري «فيومانو فاين آرت» في وسط لندن، معرضا جديدا للفنانة التشكيلية البحرينية هالة الخليفة، وهو الأول لها بعد انقطاع أكثر من 7 سنوات عن العرض.

منذ الوهلة الأولى التي تضع قدميك داخل هذه القاعة الأنيقة والمتواضعة الحجم، تفاجئك تلك اللوحات الكبيرة لنساء غارقات في وحدة عميقة، ومن خلال الألوان المعتمة التي تتدرج من حمرة منطفئة مرورا بالسواد مع ظلال موشاة بزرقة أو صفرة باهتة جدا. تحمل سلسلة هذه اللوحات عنوانا واحدا: «الأسى». هنا لا نرى من النساء سوى ظهورهن وحركة رؤوسهن المنكسة، لكن الرسامة هالة خلقت تشكيلات فنية من تلك الأجساد فكأنهن يكوّن في جلوسهن شكلا مماثلا لكرسي فارغ يقف بالقرب منهن. وإذا كان عمق الأسى الناجم عن الفراق، المتمثل بفراغ الكرسي، فإن هناك الكثير من الكلمات التي تعتمل في نفوس هؤلاء النساء، وهذا ما انعكس من خلال الكلمات المكتوبة التي غطت أجسادهن. أثارتني هذه المجموعة من اللوحات التي حملت عنوانا واحدا: «الأسى» حجم ما سعت الفنانة هالة إليه من التعبير عن صدمة الفراق الأولى. فألوان اللوحات تقترب من الألوان التي يثيرها جحيم الشاعر دانتي في «الكوميديا الإلهية»، تلك الحمرة الداكنة المتوقدة حول الأشخاص، وحالة العزلة العميقة التي يعيشها كل منهم. فالنساء حتى مع وجودهن معا غارقات في عزلة مطلقة عن غيرهن. ومن خلال غياب ملامح خاصة لأي منهن، يشعر المشاهد أن شعور الأسى العميق هو المتحكم في كل منهن مما يجعلهن متشابهات. تقول الفنانة هالة عما أرادت نقله في معرضها «نوافذ الفراق»: «عملي يبرز مباشرة من فكرة الفراق. ففي حياة كل شخص هناك مرحلة يضطر فيها إلى التعامل مع الفراق بطريقة أو بأخرى. فبالقدر الذي يمكن للحياة أن تكون سخية بإعطائنا الكثير من الأشياء الكثيرة، فإنها قادرة أيضا على أخذ بعض مما يمنحنا الأمان الذي اعتدنا على وجوده في حياتنا».

لكن الجحيم الذي تخلقه هالة الخليفة في هذه المجموعة ذو طبيعتين مختلفتين، فالأول تجريدي تحكمه الألوان وطرائق تشابكها وهي قادرة على التعبير عن «أسى الفراق» لحظة وقوعه، بطريقة آسرة، وفعالة، والثاني ذو طبيعة مادية، تتمثل في الأجساد البشرية المنكسرة، ثم تأتي الكلمات المحفورة على جلودها. إلى أي حد استطاعت المجموعتان أن تتكاملا فنيا لتثيرا بطريقة فنية في نفس المتلقي ما أرادته الفنانة هالة أن تعبر عنه؟ هذا السؤال يحيلنا إلى الحدود التي يتمكن فيها الرسم من نقل الأفكار فيها؟ وما هي الوسائل المستخدمة لإيصالها؟ فإن يحاول الحلول محل الكتابة النثرية أو الشعرية باستخدام أدواتها الوصفية، فإنه يقلص من قدرته على منح الألوان وتفاعلاتها أقصى ما تستطيع أن تحققه في التعبير والتأثير بطرائق مختلفة عن الأفكار التي تنجح اللغة بنقلها.

في لوحة «عزلة»، تختزل الرسامة هالة هذه الفجوة القائمة بانحيازها تماما إلى اللون والاقتصاد الشديد باستخدام الأشكال المادية، فالكرسي الفارغ الموضوع وسط اللوحة يتكامل مع خلفيته المتدرجة بألوانها ما بين الزرقة السماوية الباهتة ولمسة خفيضة للحمرة لكن من جانب الكرسي الذي تداخلت فوقه الألوان الغامقة حيث ساد السواد، يمنحنا بلغة غير لغة الكلمات هذا الشعور المرير الذي يتركه الفراق. وهناك من جانب الكرسي الأيمن تهبط ثلاثة شرائط حمراء، لتخلق تجانسا مع تلك البقعة الحمراء الشفيفة إلى يمين الكرسي، لكنها تمس شغاف القلب وتمس وترا في النفس.

ذكرني كثيرا هذا الكرسي، بلوحة الرسام الهولندي فان غوغ الشهيرة للكرسي الذي كان يجلس عليه صديقه الرسام غوغان. وكان الأخير قد غادر البيت الذي كان الرسامان يسكنان فيه، بعد اندلاع شجار حاد بينهما.

لكن هالة الخليفة استخدمت هنا لغة أكثر تجريدية في عملها، خاصة بها، حتى مع وجود تأثير خفي هنا للفنان فان غوغ الذي يعتبر أبا مؤسسا للتعبيرية التجريدية. تتكرر معالجة ثيمة الكرسي الفارغ في مجموعة من اللوحات، حيث تمضي الفنانة هالة في استكشاف مكنونات اللون بالتعبير عن فكرة «العزلة»، محققة ذلك التناسق الهائل بين ما هو تجريدي وما هو مجسم، ضمن اختزال متقن لا مكان فيه لأي إقحام غير مبرر له. في الوقت نفسه منحت الخلفيات المتعددة فيها متعة بصرية رائقة تخلو من الانفعال.

تأخذنا مجموعة أخرى من اللوحات إلى ما يمكن اعتباره «المطهر» في الكوميديا الإلهية. وهنا حينما يتمكن المرء من الخروج من صدمة الفراق، ويبدأ بالتكيف مع واقعه الجديد. وهنا يصبح اللون الأزرق الغامق وتدرجاته هو السائد في اللوحة على حساب اختفاء طبقات اللون الأحمر المنطفئة. وهذا ما نشاهده في لوحة «انتقال عاطفي».

هناك مجموعة تعالج فراق المدن التي ولدنا فيها، والكيفية التي تظل حية في ذاكرتنا. في لوحة «الأرض البعيدة» هناك جزيرة تحملها الأمواج لتضعها في السماء، لكن المصابيح المشعة من داخل عماراتها تعيدنا إلى لغة الأدب: الذاكرة تظل مرتبطة بالوطن بدلا من معالجة الفكرة عبر اللون والتمويه فقط.