ألمانيا تحتفل برحلة فنية مع «بارسيفال» و«سادة غناء نورنبورغ»

مع انطلاق المهرجان الـ94 لموسيقى فاغنر في بايرويث غدا

بعض المشاركين في أوبرا بارسيفال التي أقيمت خلال المهرجان في دورته السابقة (إ.ب.أ)
TT

كل عام في مثل هذا الوقت، تبحر «السفينة الشبح» مجدداً في دار أوبرا مدينة بايرويث في جنوب شرق ألمانيا، حيث عاش الموسيقار والمفكر الألماني الشهير ريتشارد فاغنر آخر فترة منتجة من سنوات عمره وخصّها بقمة إنتاجه. البعض يتعامل مع مهرجان فاغنر السنوي في بايرويث تماماً كعودة بطله «بارسيفال» من سفرته الطويلة بحثاً عن الحربة السحرية التي تعيد الحياة إلى الملك امفورتاس. ففاغنر كان الموسيقار المفضّل للزعيم النازي أدولف هتلر، كما كان «بارسيفال» الشخصية البطلة عند الديكتاتور النازي الراحل، وهو ما ألصق بفاغنر تهمة العداء للسامية. ولا شك أن إحياء ذكرى الموسيقار الكبير، الذي ولد في مدينة لايبزيغ (شرق ألمانيا) 1813، تجتذب الآلاف من هواة الموسيقى الكلاسيكية الشغوفين بالاستمتاع بالأعمال الأوبرالية الملحمية والاسطورية، لكنها متعة تحتاج إلى صبر، لأن فاغنر عُرف بملاحمه الطويلة التي تتطلب المشاهدة فترة ساعات، ولا سيما «حلقة نيبيلونغ» الملحمية وهي أوبرا من أربعة فصول استغرقه إنجاز فصولها الأربعة بين 1847 إلى 1874.

ينطلق مهرجان بايرويث الموسيقي هذا العام، في المدينة البافارية الحالمة، يوم غد الجمعة، بحضور حشد من الشخصيات البارزة تتقدمهم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. وستقدم خلال أيام المهرجان 8 من أعمال فاغنر، يُعرض بعضها منذ عقود، إلى جانب العروض الجديدة. وتتصدر أوبرا «بارسيفال» (آخر روائع فاغنر – 1882) وأوبرا «سادة غناء نورنبورغ» (1867) العروض التي يتوقع أن يحضرها أكثر من 60 ألف مشاهد من مجموع مليون شخص يتوقون لحضور المهرجان، ويقفون بالدور منذ سنوات بأمل الحصول على بطاقات الدخول.

غير أن كاترينا فاغنر، حفيدة الموسيقار الكبير والمديرة المقبلة للمهرجان، تقول إنها حرصت بنفسها هذا العام على نقل «سادة غناء نورنبورغ» ـ من إخراجها ـ من المهرجان مباشرة على الإنترنت، ومن ثم عرضها على شاشة كبيرة في أهم ساحات بايرويث وأكبرها. وتقول المخرجة المعروفة، وهي ابنة فولفغانغ فاغنر، انها فعلت ذلك شعوراً منها بأن موسيقى فاغنر ملك للجميع وليست حكراً على نخبة من «المغرورين» تتوهّم أنها أحق من غيرها بمشاهدة الأعمال.

أسّس ريتشارد فاغنر نفسه المهرجان في بايرويث، عندما سكن عام 1872 في هذه المدينة، التي اصبح مديراً لدار الأوبرا فيها واستقر بها حتى تاريخ وفاته عام 1883. وقد سعى شخصياً لتعزيز مكانته، بحيث يكون منصة لترويج روائعه الأشهر، ولاسيما «حلقة نيبيلونغ» و«بارسيفال». ويستضيف المهرجان مبنى دار الأوبرا ـ أو بالأصح «دار الاحتفالات» المسرحي الذي صمم خصيصاً للمهرجان وأشرف فاغنر نفسه على تصميمه وتشييده. ويقول دارسو سيرة الموسيقار الكبير إن جانباً أساسياً من حرصه على مشروعي الدار والمهرجان كان ضمان استقلاله الاقتصادي والمادي، بعدما فقد مرحلياً حظوته عند الملك لودفيغ الثاني ملك بافاريا، الذي أبعده عن ميونيخ بعدما كان راعياً له ومعجباً به. ولقد تحقق حلم فاغنر بعد وفاته. فاليوم يعد مهرجان بايرويث أحد أهم أحداث روزنامة الموسيقى الكلاسيكية في العالم، ويقصده عشاق أعمال فاغنر من كل أنحاء العالم، وتقدّر فترة انتظار الحصول على تذاكره بنحو سنتين. هذا العام يقام المهرجان، الذي أشرف ولداه فولفغانغ وفيلاند على تنظيمه معا حتى لحظة موت الثاني في الستينات، للمرة الرابعة والتسعين. وكان قد اكتسب سمعة عالمية منذ عام 1976 حين أصبح فولفغانغ الرئيس الوحيد للمهرجان وأشرف بنفسه على اختيار أهم المخرجين والموسيقيين العالميين لتنفيذ الأعمال. ويتخلل المهرجان بجانب العرض الرئيس نحو 30 عرضاً آخر موزّعة على دور الأوبرا الصغيرة والمسارح الأخرى في المدينة.

ويفتتح المهرجان يوم الجمعة بإخراج جديد لأوبرا «بارسيفال» من اخراج شتيفان هيرهايم الذي انتخبته مجلة «عالم الأوبرا» كأفضل مخرج للأعمال الأوبرالية عام 2007. وبعد العرض المثير للجدل الذي بدأ قبل أربع سنوات، من إخراج كريستوف شلنيغنزيف، يقدم هيرهايم رحلة «بارسيفال» وصراعه ضد الساحر الشرير «كلينغسور»، بمثابة رحلة في تاريخ ألمانيا تمتد بين القيصر فيليهم (غليوم) الثاني وجمهورية فايمار والرايخ الثالث والجمهورية الاتحادية. ويبلغ طول العمل 5 ساعات من توزيع الموسيقية الايطالية دانيلا جانيتي.

من ناحية ثانية، تتولى كاترينا فاغنر بنفسها إخراج وتقديم «سادة غناء نورمبيرغ»، رغم الانتقادات التي وجهت إليها في العام الماضي. وقد تميّز عرضها بالألوان والأزياء الجميلة (من أعمال ميشائيلا بارت) واللمحات الكوميدية التي اعتبرها البعض «حشراً» على العمل، لكن المخرجة اعتبرته تعبيراً عن التناقض بين الحديث والتقليدي في المسرح. ولقد اسندت كاترينا قيادة الاوركسترا للموسيقي الشاب سيباستيان فايغله. وعدا عن «رحلة بارسيفال» الأسطورية، سيتسع الوقت أمام المشاهدين للحزن أيضاً في أوبرا «تريستان وايزولد» للمخرج كريستوفر مارتالر وأوركسترا بيتر شنايدر. وستلعب دور ايزولد لأول مرة ممثلة سويدية شابة اسمها ايرينا تيورين. وينتظر أن يتلقى الجمهور بحماسة بالغة أوبرا «حلقة نويبلينغ»، يحلو للبعض تلقيب مخرجها تانكريد دوست بـ«سيد الخواتم». وربما يعود الاعجاب بالعمل إلى اختصار النص بواسطة الكاتب أوفه هوبه الذي أهّل المخرج لتقديم الأوبرا خلال 2.5 ساعة بدلاً من 8 ساعات ماراثونية.

يشارك في المهرجان 300 ضيف من 30 دولة يجمعهم حب موسيقى فاغنر والاطلاع على ما هو تقني وفني في عروض الأوبرا. كما سيشتمل على ورشة عمل فنية يشارك فيها 50 مخرجاً ومغنياً شاباً ممن يودّون تبادل الخبرات واكتسابها خلال أيام المهرجان.

* مدينة بايرويث في سطور

* مدينة بايرويث، التي ارتبط «مهرجان بايرويث الموسيقي» السنوي باسمها، مدينة عريقة صغيرة الحجم نسبياً تقع في شمال شرق ولاية بافاريا جنوب ألمانيا. وهي عاصمة المنطقة المعروفة بفرانكونيا الشمالية. يقدر عدد سكان بايرويث بحوالي 75 ألف نسمة. ويقدّر المؤرخون أنها أسّست في القرون الوسطى على أيدي نبلاء عائلة أنديش، الذين حمل أفرادها لقب الكونتية في تلك الحقبة، وتمتعوا بنفوذ كبير في فرانكونيا الشمالية. أما أول إشارة لها بالاسم فسجلت عام 1194م. وقد مرّت على بايرويث التي خضعت لبعض الوقت لحكم أسرة هوهنزولرن، في ما بعد عدة حروب، وعاشت فترات نمو ونكبات، ولقد دمّرت عام 1430 في الحرب البوهيمية التي شنتها ضد «الهوسيين» (أتباع الإصلاحي المسيحي يان هوس) المرجعيات الكاثوليكية الأوروبية التي اعتبرتهم هراطقة. كما تعرّضت لسلسلة من الأوبئة والحرائق خلال القرن الـ17، وهو القرن الذي شهد حقاً صعودها كمدينة مميزة. ففي عام 1603 قرّر «المارغريف» (الأمير) كريستيان من أسرة براندبورغ-كولمباخ جعل بايروث مقر حكمه ومسكنه، فبدأ تطورها العمراني الذي لم يبطئه سوى اندلاع حرب الثلاثين سنة. بعدها شيدت في المدينة مجموعة من المباني الفخمة على الطراز الباروكي، واستمرت النهضة العمرانية بعد وفاة كريستيان وتولّى أمورها أحفاده من بعده. وبلغت بايرويث خلال القرن الـ18 أوج تألقها في عصر الأميرة فيلهلمين شقيقة فريديريك الثاني ملك بروسيا، التي أنشأت فيها الحدائق والقلاع، ومعها «دار أوبرا الماغريفات» (الأمراء) التي يعتبرها كثيرون أجمل مسرح مشيد على الطراز الباروكي في أوروبا. ولكن عام 1769 بعد وفاة آخر أمراء بايرويث من دون ان يرثه احد، فقدت المدينة موقعها السياسي المستقل وألحقت تباعاً بمناطق أخرى، إلى ان صارت فعلياً جزءاً من بافاريا عام 1810. وفي الحقبة النازية، اعتاد القادة النازيون على زيارة بايرويث لحضور أوبرا فاغنر، وحاولوا جعل المدينة مثالاً ونموذجاً لـ«المدينة النازية». وهكذا بفضل إعجاب هتلر – الذي كان يحرص على حضور المهرجان – بفاغنر، وبالتالي ببايرويث، صارت المدينة ضمن مجموعة المدن التي أخضع تنظيمها المدني وتخطيطها مركزياً من العاصمة برلين. ولكن خلال الحرب العالمية الثانية دمّر ما يقرب من ثلث مباني المدينة وقتل نحو ألف نسمة من أهلها. وبعد انتهائها نفضت عنها غبار الماضي، ومع أنها أعادت إنهاض مهرجانها الشهير، فإنها قلبت صفحة ماضي العلاقة مع هتلر. وعام 1975 انضمت إلى نخبة المدن الجامعية في ألمانيا، عندما أسست فيها جامعة بايرويث.

* «دار الاحتفالات» مكان المهرجان

* «دار الاحتفالات» أو دار أوبرا بايرويث، مقر المهرجان السنوي الكبير لأعمال الموسيقار ريتشارد فاغنر، شيّد خصيصاً لهذه الغاية. ولقد اقتبس فاغنر نفسه التصميم من مشروع لم يبصر النور للمهندس المعماري غوتفريد سيمبر، ومن دون إذنه، لدار أوبرا تشيد في مدينة ميونيخ. وأشرف الموسيقار من ثم على تشييد الدار في شمال مدينة بايرويث، بتمويل أسهم فيه الملك لوفيغ الثاني ملك بافاريا، وقد وضع الحجر الأساس للمبنى يوم 22 مايو (أيار) من عام 1872. ودشّن المبنى بأول عرض لأوبرا «حلقة نيبيلونغ» بفصولها الأربعة بين 13 و17 أغسطس (آب) 1876. ومن المعالم المعمارية التي تتسم بها الدار خلوها، باستثناء واجهتها من الزخارف. كما يتميز موقع الأوركسترا داخل المبنى بإنه على مستوى منخفض عن المسرح مغطى بغطاء يحجب العازفين عن الجمهور. وكان هذا في صميم أهداف فاغنر الذي كان يحرص على أن يتابع الجمهور أحداث الأوبرا وأداء المؤدين بدلاً من النظر إلى العازفين.