في البلقان.. التسول فنون

إخفاء الهوية الغجرية إحدى مظاهرها والتظاهر بالحاجة أهم مقوماتها

التظاهر بالاعاقة أو استخدام الشهادات الطبية المزورة أحد طرق التسول («الشرق الاوسط»)
TT

منذ طلوع الفجر، تنطلق سيارات الميكروباص، من المنازل والخرب وأكواخ الغجر حول المناطق الحضرية متوجهة صوب المدن، وهي تحمل عشرات الأطفال والنساء لتوزيعهم على نقاط التسول، كالإشارت الضوئية على الطرق، وفي الشوارع حيث لا يسلم المارة من إلحاح تلك المجموعات من النساء والأطفال التي تلاحقهم لمسافات طويلة من دون كلل أو ملل. ويجد أصحاب المقاهي والمطاعم، صعوبة كبرى في إبعادهم عن الزبائن الذين لا يسلمون من الاستجداء والاستعطاف.

وقد رصدت «الشرق الأوسط» بعض مظاهر نشاط التسول الغجري وكانت البداية في التروماي. أحدهم جلس في اعتداد بالنفس في مقعد بالتروماي بين إليجا وسراييفو (البوسنة) وبجانبه عربة معاقين. ظن الجميع أنه يحملها لمريض من أقاربه في المستشفى، أو ليقدمها لأحد المعاقين، أو.. لكن تلك التخمينات لم تدم طويلا، وسرعان ما بدت الدهشة على وجوه الجميع عندما وصل التروماي إلى الفياشنيتسا (المكتبة الوطنية في سراييفو التي أحرقها الصرب سنة 1992)، ونزل الرجل الذي بدا في كامل صحته ليجلس في المقعد المتحرك، ويغطي رجليه بباطنية، ثم يدفع العربة طلبا من المارة التصدق عليه! فنون التسول الغجري في هذه المناطق كثيرة ومتنوعة، فإلى جانب كون كافة أفراد الأسرة يمارسون هذه المهنة إن صح وصفها بذلك، فإن هناك حالات خاصة، منها التسول بالإعاقة أو بالشهادات الطبية المزورة التي تفيد بمرض أحد أفراد الأسرة بمرض عضال وأن المتسول يجمع له الأموال لإجراء عملية جراحية أو دفع تكاليف العلاج، أو التسول عبر العزف على آلة موسيقية مهما كان نوعها، أو الرقص في الشوارع أو امتهان العرافة وادعاء علم الغيب. وفي الفترة الأخيرة بدأت ظاهرة مختلفة تعتمد على المظهر الجيد حيث أصبح من المألوف رؤية نساء في مقتبل العمر مرتديات ملابس نظيفة ومتأنقة أحيانا يجلسن على حواف الطرق العامة والشوارع منكسات رؤوسهن في خجل مصطنع وأيديهن ممدودة في صمت. وذلك لإيهام المارة بأنهن لسن غجريات وإنما من ضحايا الحرب المشردات من مناطقهن وغير ذلك. ويعرف الكثيرون أن عمليات التسول تخضع لنظام يضعه رئيس المتسولين، ففي الوقت الذي يبدأ فيه الغجر عملية التسول، يكون مندوبون عن صاحب السيارة أو مؤسسة التسول يراقبونهم، حتى لا ينقصوا شيئا من المال الذي حصلوا عليه في ذلك اليوم. فبعد ساعات طويلة من الوقوف والاستجداء من الفجر وحتى الحادية عشر ليلا يتم تفتيش المتسول من قبل رئيسه قبل صعوده إلى السيارة وتسليمه جزءا من المال الذي جمعه وهو 10 في المائة، كما قال بعضهم لـ«الشرق الأوسط». العاملون لحسابهم الخاص من الغجر كثيرون، لكنهم يتعرضون للاضطهاد والمضايقات الشديدة والاعتداءت من قبل أصحاب «الشركات» لإجبارهم على العمل لصالحهم، وأحيانا تنتهي المشكلة في أقسام الشرطة. يقول احد المتسولين ويدعى نفايل لـ«الشرق الأوسط»: «كثيرا ما جردوني من كل ما أجمعه، لذلك ألوذ بالفرار عندما أراهم يسيرون نحوي». وتابع «لقد اتفقنا نحن مجموعة من المتسولين المستقلين على مراقبة مداخل الشوارع، فإذا أبصر المراقبون أيا من عمال أصحاب «الشركات» أخبرنا فنختفي بسرعة». ورغم أن الغجر في أغلبهم لا يرسلون أبناءهم للمدارس، إلا أن من اقتنعوا بالتعليم أو تم إقناعهم مقابل مساعدات مادية، لم ينفكوا عن إرسال أطفالهم للتسول بعد الحصص الدراسية. وقالت فتاة تدعى مارة ل «الشرق الأوسط»: «يجبرني والدي بعد العودة من الدراسة على التسول ولا يمكنهم الترحيب بي عند العودة في ساعة متأخرة إلا إذا كان معي ما لا يقل عن 10 يوروات». الكاتب والفنان الغجري المعروف في البلقان، محرم سربوسفسكي، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، وسياسات الدول التي يوجد فيها الغجر دفعتهم الى ممارسة التسول». وأشار سربوسفسكي إلى أن «الكثير ممن تحسنت أوضاعهم هم الآن تجار وأصحاب أعمال، مما يعني أن التسول ليس قدرا على الغجر وليس أسلوب حياة كما يرى البعض مخطئ». ويؤكد سربوسفسكي أن ممثلين عن الغجر طالبوا دول البلقان بإيلاء قضية الغجر ما تستحقه من اهتمام واعتبارهم مواطنين على قدم المساواة مع بقية سكان الدول التي يوجدون فيها. الحكومات المحلية ورغم مناداة بعض منظمات حقوق الإنسان بضرورة العناية بالغجر، وتوفير احتياجاتهم، إلا أنها تغض الطرف عن ذلك. كما أن أغلب الناس في البلقان ينظرون للغجر نظرة دونية، حتى غدت كلمة غجري أو غجرية من أقذع السباب وأشده تعبيرا عن الاحتقار. وقد انسحب ذلك على المؤسسات الرسمية، حيث لا يوجد اهتمام حقيقي بموضوع التسول طالما أن الذين يمارسونه غجر، وهو في نظرهم أمر طبيعي، فـ«هؤلاء غجر» لذلك لا أحد يسأل الغجري الذي يملك سيارة عن رخصة القيادة، فضلا عن قانونية امتلاكه شركة للتسول، واستغلال إخوانه الغجر.