نداءات الباعة في شوارع القاهرة عزف منفرد بلا أجر

من جنون «الطماطم» إلى فياغرا «الجرجير» وقذف البضائع في الهواء

النداءات على رغم طرافتها إلا أن البعض يراها وسيلة للاحتيال والترويج لسلع «مضروبة» («الشرق الاوسط»)
TT

نداءات الباعة الجائلين في شوارع القاهرة أشكال وألوان، تتكون بعفوية شديدة، ثم تنفض بنفس العفوية أيضا. تبلغ هذه النداءات ذروتها في المساء، ويتنوع إيقاعها بحسب السلعة المعروضة، ومهارة الباعة في ابتكار نداءات لافتة تعزف على وتر الفانتازيا وجيب الزبون.. هذه النداءات على رغم طرافتها، إلا أن البعض يراها وسيلة للاحتيال والترويج لسلع «مضروبة»، وهناك من يراها وسيلة لكسب الرزق، وحل مشاكل الناس واحتياجاتهم، بخاصة بعد تفاقم الغلاء وارتفاع الأسعار.

الغموض أحد الأسلحة المهمة لتؤتي هذه النداءات أكلها، واستثارة شهية الزيون. وهو ما يذكرني بنداء «كت هيهي يا هيييه للبيا هييه».. الذي ابتكرة «عم» إبراهيم بائع الكتاكيت في قريتنا، وأصبح أسطورة ولغزا يجتهد الصغار والكبار في حله، إلى أن صمم أحدنا على سؤاله وهو برفقة جدته أثناء شرائها بعض كتاكيته، وبعد أن أخذ ثمنها راضيا مرضيا قال إن نداءه «كتاكيت للبيع»، واعترف بأنه أراد أن ينطقه بطريقة مميزة عن بائع آخر كان ينافسه في نفس المنطقة فخرج النداء بتلك الطريقة، وبعد موت البائع الآخر بقي النداء كما هو، إلى أن اختفى إبراهيم تدريجيا بحكم السن، قبل أن يختفي كل باعة الطيور تدريجيا بحكم «أنفلونزا الطيور». طريقة إبراهيم اللافتة في البيع ضمنت رواج بضاعته أمام منافس واحد، لكن الأمر مختلف إذا كان المنافسون بالعشرات يضمهم مكان واحد مثلما هو الحال في منطقة الإسعاف بوسط القاهرة، عندئذ لا تكفي مهارة واحدة لتضمن البيع؛ فما بين الاستعانة بآلات موسيقية كالطبلة والرق لعزف لحن تقتصر كلماته على كلمتين هما «بعشرة بس» مثلما يفعل أحمد الدمرداش وشقيقه أثناء بيعهم الملابس المقلدة على الرصيف، يتجمع المارة على الغناء والموسيقى وبمجرد أن يشترى أحدهم تي شيرت «ربنا بيوسع» هكذا علق الدمرداش ثم أضاف: «الناس بتحب تقلد بعض، وإحنا بضاعتنا كويسة ورخيصة». «سيكولوجية الجماعة» أو ما يسميه علماء الدعاية «سيكولوجية القطيع»، التي يعتمد عليها الدمرداش وشقيقه يعتمد عليها كذلك رمضان الضوي بائع الخضراوات والفاكهة، الذي يتخير وقت الانتهاء من صلاة الجمعة وتزاحم المصلين، بعد الخروج من المسجد لعرض بضاعته على سيارته الصغيرة، ويؤكد أن السعر لا بد أن يكون أرخص نسبيا من سعر المحلات، ثم يعلن ذلك بصوت مرتفع، وإذا لم يفلح ذلك في جذبهم يبدأ في البحث في دفاتره القديمة عن طريقة لجذب انتباههم، إما أن يمسك بيديه الثمار ثم يقذفها في الهواء، ثم يصحب ذلك نداءه الغريب «أنا مش بايع»، أو يصفق بيديه ثم يوزع الأكياس على المارة لوزن الخضراوات بأنفسهم.

أما أغرب الطرق التي لجأ إليها الضوي، لتصريف بضاعته فيتحدث عنها قائلا: «كنا في شهر رمضان، وهناك أزمة في الطماطم، ولم تكن من بين بضاعتي في ذلك اليوم، وعندما وجدت المصلين منصرفين عن الشراء، اضطررت أن أكذب وأنادي النداء الشهير «يا مجنونة يا طماطم» وعندما أتت الوفود تحججت أنها نفدت، وبالطبع اشتروا الخضراوات الأخرى، فالأهم هو الزحام حول البضاعة، أما الشراء فهي خطوة مضمونة».

من الممكن أن تلعب نداءات الباعة على «تيمة» العقد الشخصية، مثلما يفعل دسوقي بائع النعناع في حافلات النقل العام، يقول نداء دسوقى «حب الأرواح.. يخلي العجوزة صبية، والفلاحة بندراوية» (أي ابنة المدينة)، بالتأكيد لا يصدق أحد ما يقوله دسوقي، وإن كان السجع والكوميديا التي يحفل بهما النداء، يخلف حالة من البهجة قد تدفع الراكب للشراء.

يلجأ محمود بائع «سكر النبات» في الحافلات إلى حيلة أخرى بندائه «قوى قلبك بسكر النبات، الواحد بجنيه» وبعد ثلاث مرات يكرر النداء بشكل مختلف «والله ببيع بخسارة، قوي قلبك بسكر النبات الاثنين بجنيه» ثم يصل العدد إلى الأربعة، عندئذ تبدأ عملية الشراء، بعد أن يوهم الركاب أنه يبيع بالخسارة، حتى يتخلص من بضاعته الراكدة.

نفس المنطق استخدمه حسام في ندائه على الملابس خلال الاوكازيون الصيفي بشارع طلعت حرب بوسط القاهرة فصرخ بندائه الغريب «المعلم، فلس، بيته اتخرب، كل حاجه بعشرة جنيه»، وهو نداء يقترب إلى حد كبير من النداء الأشهر في السينما المصرية، الذي كان على لسان النجم عادل إمام في فيلم سلام يا صاحبي»، عندما كان يؤدي دور بائع بطيخ» باتنين ونص، تعالى بص». في سوق الفاكهة النداءات لها منطلقات أخرى، ففي ظل الاتهامات المتكررة بأن الفاكهة في مصر لم يعد لها نفس طعم الماضي بفعل استخدام الهندسة الوراثية وظهور الفاكهة في غير موعدها، تتركز نداءات الباعة على الربط بين الفاكهة ومكان إنتاجها الأنسب، ضمانا جيدا لبيع البضاعة، فيقول البائع «سيناوي يا خوخ».

و«مشمش العمار»، و«فيومي ياعنب»، فالعنب الجيد مرتبط بمحافظة الفيوم بجنوب مصر، والخوخ بمنطقة سيناء، والمشمش بمنطقة العمار التابعة لمحافظة القليوبية بشمال مصر، وهكذا.

نداءات لعب الأطفال في مصر أيضا لها قاموسها، فـ«شبشب حمادة وصندل ميادة بخمسة جنيه» نداء أصبح محفوظا عند باعة أحذية الأطفال على الأرصفة، وتتغير الأسماء تبعا للجرس الموسيقى. يمكن للبائع أيضا أن يتجه للطفل مباشرة، معتمدا على قدرته على إجبار والديه على الشراء، ومن هنا يبهر سامي وهو بائع للعب الأطفال على رصيف شارع شريف فيترك سمكة بلاستيكية تعوم في الماء مع نداء يقتصر على «تعالى شوف ياحبيبي» وما إن ينظر الطفل إلى حركات السمكة إلا وتكون «السنارة قد غمزت» بحسب التعبير الشعبي المصري.

من الممكن أن يستغني سامي أحيانا عن النداء مكتفيا بالصوت، الذي تحدثه لعبة الطفل، كي يجذب نظره مثلما يعزف بنفسه على «اكسيليفون» صيني الصنع ويصدر صوتا يستسيغه الطفل، وقس على ذلك بقية الآلات الموسيقية.

لا تخلو نداءات الباعة من نداءات شقية وطريفة، تلعب على وتر الجنس كعامل لجذب الزبون ولفت انتباهه، مثل «جوز الطيب ولا الحوجه للطبيب» أو «حزمة جرجير تكسَّر السرير». ففي عرف المصريين يعتبر الجرجير مقويا جنسيا، والبعض يشبهه بالفياغرا. ومن أكثر من يلجأون للعزف على هذا الوتر، باعة الأعشاب والخلطات الشعبية مثل «جرب سر الخلطة، وابعد عن الجلطة».. وغيرها من النداءات «الحريفة» كما يصفها البعض. وبرغم اشتداد المنافسة بين الباعة، وما يتمخض عنه من نداءات جديدة، إلى أن هناك نداءات تقليدية مرتبطة بمهن تاريخية، لم ينجح الزمن في تغييرها، من أبرز هذه النداءات نداء بائع «الروبابيكيا» الذي يشترى كل ما هو قديم في البيت من كتب وأجهزة قديمة، وأدوات منزلية وأوان، فلا يزال نداؤه الشهير «بيكيا.. بيكيا» يتردد منذ سنين، قاطعا بين الحين والآخر صخب شوارع القاهرة، التي باتت لا تعرف الهدوء.