بيروت تكتشف ميدانها الروماني وسيناريوهات متعددة لإنقاذه

بعد «قيصرية» و«بصرى» و«جرش» و«صور»

صخرة الروشة في مقدمة الصورة تعد أحد المعالم التي تميز العاصمة اللبنانية («الشرق الاوسط»)
TT

بعد اكتشاف ميادين الخيل القديمة في كل من «القيصرية» في فلسطين، و«بصرى» في سورية، و«جرش» في الاردن، وميدان مدينة صور في جنوب لبنان، جاء دور بيروت في اكتشاف ميدانها القديم في منطقة «وادي ابو جميل» في وسط بيروت على يد المديرية العامة للآثار، التي أنجزت «تظهير» العناصر الهندسية الاساسية في الميدان الروماني، بدءاً بالمراقي (جمع مرقى) والجدار البطولي بين ميدان الذهاب وميدان الإياب، ومقاطع الاعمدة التي تحمل التماثيل الصغيرة المزينة للسقف الذي يحتوي على المنبر.

ويقول المدير العام للآثار أسعد سيف لـ «الشرق الاوسط»: «ان الميدان يمتد على ثلاثة آلاف متر مربع، وهو اكتشاف بالغ الاهمية لأنه يمثل المكون الاساسي للمشهد المديني في العصر الروماني. لذلك من الضروري المحافظة عليه وتحويله موقعاً اثرياً وسياحياً بامتياز».

ويطرح عالم الآثار العامل لدى شركة «سوليدير» هانس كورفر ثلاثة سيناريوهات للمحافظة على هذا الموقع، اولها شراء الارض التي يقوم عليها الميدان، وهي عملية مكلفة، والثاني يتمثل بالإبقاء على الموقع تحت المبنى الجديد المنوي انشاؤه، لكن هذا الحل سيحرم الجمهور من الاستمتاع بهذا الموقع التاريخي لكونه ملكية خاصة. اما الحل الثالث الذي طرحه كروفر فيقضي بتفكيك الميدان واعادة جمعه في حديقة «وادي ابو جميل». ويبقى للمديرية العامة للآثار ان تختار السيناريو المناسب.

اما بالنسبة للمدير العام للآثار اسعد سيف، فان السيناريو الاخير سيناريو غير مقبول وغير مقبول «لأننا لم نعرف ان احداً قام بتفكيك ميدان قديم للخيل بغية اعادة تركيبه. لم تحدث اي سابقة من هذا النوع».

ويشير الى «ان ميدان مكسيموس في روما الذي لم يسلم سوى 5% من عناصره تمت المحافظة عليه في موقعه. اما نحن، فقد عثرنا على جميع عناصر الميدان، فهل يجوز ان نعرضها للتدمير؟ ان قرار نقل موقع اثري لا يتخذ الا في حالات الاستحالة القصوى، وعندما لا يكون هناك اي خيار آخر، او عندما تكون العملية ممكنة. الا انها بالنسبة الى ميدان بيروت صعبة وحتى غير واقعية، لأن المراقي هي من الحجر الكلسي، والحجر الرملي الصلصالي، ويمكن للكتل المستديرة والحصى المجموعة بواسطة الملاط ان تتعرض للتفتت اثناء تفكيكها. وهذا الامر ينطبق على اكثر من عنصر من عناصر الميدان».

ويضيف سيف: «صحيح ان هناك شروطاً اقتصادية يجب احترامها، ولكن هل ينبغي ان ننتزع بيروت من ذاكرتها؟»، محذراً من «خسارة هذا الارث الوحيد الذي لا يعوض، والمثقل بالمعاني والقيم. والمحافظة عليه تعني الجميع، وتستدعي تضافر الجهود».

ويقول احد المهتمين اللبنانيين بالتراث لـ «الشرق الاوسط»: «يجب ان نوفق بين بيروت الحديثة وبيروت القديمة. بين بيروت العمران وبيروت التراث. ارضنا لا تنتج نفطاً ولا ذهباً، بل هي منجم آثار لا ينضب. والى جانب بيروت الابراج السكنية والمجمعات التجارية يجب ان تبقى بيروت واجهة استثنائية لتنوع الحضارات على غرار المدن الموغلة في التاريخ والتي تصون تراثها وآثارها».

وفيما اكد وزير الثقافة السابق ووزير الاعلام الحالي طارق متري بقاء الموقع في مكانه، بدأت الحركات الثقافية والجمعيات التراثية تحركاً لافتاً من اجل عدم التفريط بـ «الاثر المميز» كما وصفته احدى تلك الحركات. وحذرت «الحركة الثقافية» في بلدة انطلياس (شمال بيروت) من تفكيك الموقع مذكرة بأن ميدان بيروت ورد في العديد من النصوص التاريخية التي تتحدث عن لبنان وعاصمته «الامر الذي يبرز اهمية الطابع التاريخي، والثقافي والسياحي للموقع». ودعت الحركة المسؤولون في الثقافة وجميع المعنيين بتطبيق قانون حماية التراث الى المحافظة على الموقع، معلنة انها ستوسع اتصالاتها مع اكبر عدد ممكن من المعنيين في لبنان وخارجه لحماية «الكنز الثمين».

يذكر ان سباق العربات كان ابرز الرياضات في روما، حيث كان يمارس في حلبات رملية منبسطة، واشهرها «ميدان مكسيموس» الذي كان يتسع لنحو 380 الف شخص. وعلى غرار روما نعم عدد من مدن الامبراطورية الرومانية بميادين مماثلة، منها مدينة «كولونيا جوليا اوغوستا بيرتيوس» (اي بيروت)، المشهورة بمدرسة الحقوق، التي تشكل حلقة مهمة في تاريخ بيروت الاجتماعي. وبحسب المراجع والنصوص القديمة جرى تجهيز الميدان بين العامين 70 و253 و70 قبل الميلاد. وكان ينقسم قسمين يفصل بدوره بين ميدان الذهاب وميدان الاياب، يطلق عليه اسم «سبينا». وكان يستخدم قاعدة للزخارف والرموز، او يلعب دوراً في مجرى السباق. وكان هذا الجدار مزيناً بمنحوتات للابطال والحيوانات، وهياكل صغيرة دائرية واحواض مياه لسقي الخيول، ومسلات (نصب عمودية).

وعندما بوشرت الاعمال في العام 1929 لبناء مقر القنصلية اليونانية في «وادي ابو جميل»، اكتشف العمال نص تعويذة هدفت الى رمي الشؤوم، قبل نحو 2000 سنة، على 35 جواداً كانت تستعد للركض في الميدان، باعتبار ان لكل حصان شيطاناً، وكذلك لكل «جوكي» يتمنطق باللون الازرق. وكانت هذه التعويذة تلقى على ميدان الخصم. ولنجاح هذه العملية التعويذية يجب ان يوخز الشخص المستهدف، سواء كان من فخار او برونز او شمع بـ 13 وخزة ابرة او 13 وخزة مسمار: اثنتان في الاذنين، واثنتان في العينين، وواحدة في الفم، واثنتان في الاحشاء، واثنتان في اليدين، واثنتان في «الاجزاء السرية»، واثنتان في مشطي القدمين.