العملاق يوسف شاهين ونصف قرن من الشغب الاستفزازي

من «بابا أمين» إلى «هي فوضى»

يوسف شاهين في لقطة من فيلم «اسكندرية كمان و كمان»
TT

نصف قرن من السينما والمتع الفريدة قدمها المخرج العملاق يوسف شاهين للمشاهد العربي، قبل أن يرحل تاركاً وراءه أكثر من أربعين فيلماً، يكاد يشكل كل منها محطة في تاريخ السينما العربية. فمن «بابا أمين» سنة 1950 الذي أخرجه وهو في الثانية والعشرين إلى «هي فوضى» عام 2007، ليس من فيلم لشاهين إلا وأثار غضباً أو شغفاً. فهذا الشاب الاسكندراني ذو الأصول المختلطة (أب لبناني، أم يونانية وزوجة فرنسية مع نشأة مصرية) والذي بقي سؤال الانتماء يؤرقه منذ نشأته الأولى، تتلمذ صغيراً على الثقافة الفرنسية وتخصص يافعاً في رحاب الولايات المتحدة الأميركية، وعاد مسحوراً بحكايات أرضه وناسه ومسكوناً بقصته الشخصية. وحين سئل ذات مرة لمن يصنع أفلامه، قال: أولا «لنفسي، ومن ثم لعائلتي، ومن بعد للاسكندرية، فإن أحبها المشاهد العربي فأهلا وسهلا وإن أحبها المشاهد الأجنبي فأهلا وسهلا مرتين». كلام من القلب لرجل لم يعبأ بخصومه، ولم ينحن لعواصف السخط التي طاردته حتى فيلمه الأخير، وصنع سينما لا تشبه غيره.

مخرج، ممثل، صانع نجوم، كاتب لسيناريوهاته وعاشق للموسيقى والغناء والرقص، عنيد حتى الجنون. قبل سنتين في عيد ميلاده الثمانين، وبينما كان الاحتفال به على أشده في «مسرح المدينة» البيروتي، بوجود عدد من الفنانين بينهم صباح وماجدة الرومي، وجمع كبير من المحبين، حضر قالب الجاتو واختفى يوسف شاهين، بعد ان كانت القاعة قد غنت له وتنكرت بالطرابيش. علم الجميع لحظتها ان يوسف شاهين نقل إلى المستشفى. لم يصدق الحاضرون ان مخرجهم الأحب سينجو من تلك المحنة القلبية بعد حالة اختناق قوية أصابته، إلا انه في اليوم التالي خرج وفي فمه سيجارته التى أبى ان تفارقه رغم تحذيرات الأطباء المتلاحقة، واستقل طائرته، وعاد إلى القاهرة، فيما الفنانة نضال الأشقر التي كانت تستضيفه يومها تقول: «لم اصدق انه نجا، لقد خفت أن يقضي في بيروت». المغامرات التي خاضها هذا السينمائي الفذ الذي أوصل السينما العربية إلى المراتب العالمية وماحك السلطات من دون كلل كما ناوش المتطرفين، كان معجوناً بالسياسة منذ أفلامه الأولى، مسكوناً بحس العدالة الاجتماعية. بدأ مع «بابا أمين» عام 1950 بعد عودته من أميركا، ثم أخرج «ابن النيل» عام 1951 ليسلط الضوء على حياة الفلاح المصري المزرية وصراعه مع البيئة البرجوازية ودعي على الأثر للمشاركة في «مهرجان كان». فيلمه «صراع في الوادي» 1953 كان صرخة مدوية ضد الظلم والإقطاع، ثم جاء «صراع في الميناء» ليلقي الضوء على معاناة العمال وآلامهم. لكنه لم يحقق قفزته الكبيرة كسينمائي متميز قبل فيلمه «باب الحديد» عام 1958 الذي مثّل فيه دور قناوي، بائع الجرائد الأعرج الذي يقع في حب بائعة المثلجات هنومة، وينتهي إلى كارثة. وحصل يوسف شاهين على جائزة أفضل ممثل في مهرجان برلين السينمائي، عن دوره هذا، لكن الجمهور المصري لم يبد الحماسة نفسها للفيلم وفشل فشلا تجاريا ذريعا وتوقف عرضه عشرين عاماً. لكن شاهين بقي متحفزاً ليطلع علينا بفيلمه «جميلة» عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد عام 1958، وكانت مفاجأة ليوسف شاهين ان يخرج المتفرجون من فيلمه ليحرقوا السفارة الفرنسية غضباً. ولم يتوقف المشاغب هنا بل جاء فيلمه «الناصر صلاح الدين» في عز المرحلة الناصرية عام 1963 مصوراً ذاك القائد التاريخي في مواجهة ضارية مع أوروبا، في إحالة إلى عبد الناصر الذي لم يهادنه طويلا. فبعد «يوم جديد» الذي انتقد فيه التسلط وفهم منه انه يقارع عبد الناصر، ترك شاهين مصر عام 1964 ولم يعد قبل 1986، وخلال هذه الفترة أخرج «بياع الخواتم» الشهير الذي كان ثمرة عمل مع الرحابنة وفيروز. أما فيلم «الأرض» الذي ابصر النور عام 1969 فجاء بديعاً ومعبراً عن احساسه بالهزيمة المروعة التي حلّت بالعرب عام 67، ليأتي بعد ذلك «الاختيار» كنقد للمثقفين و«العصفور» عام 1973 الذي كان جريئاً، قوياً، معبراً عن شعب يريد الانتصار وسلطة مهزومة لا تليق بناسها. ومنذ تلك النكبة التي هزّت العرب وأفلام يوسف شاهين تزداد غرقاً في البحث عن الأسباب والنتائج وتسعى للفهم وإثارة الجدل. وفي الثمانينيات يبدو ان شاهين عاوده الحنين لمدينته الاسكندرية، وربما لذاته أيضاً، فبدأ بسلسلة أفلام تحكيها، وتحكي قصته معها فكانت الفاتحة مع «الاسكندرية ليه» 1978 ثم «حدوته مصرية» 1982، «اسكندريه كمان وكمان» 1999 وأخيراً «اسكندرية ـ نيويورك». سيرة ذاتية سينمائية اتهم شاهين بسببها بجنون العظمة، لكننا نفهم اليوم، ربما، ان حياة شاهين، هي حياة أمته ايضاً وتحولاتها الصاعقة. وفي عودة جديدة إلى التاريخ لفهم الحاضر أخرج عام 1985«وداعاً بونابرت» فخلب الفرنسيين والعرب على حد سواء بروعة مشاهده، وعرض في كبريات الصالات الفرنسية. والفيلم لم يكن مجرد مغامرة تجارية بقدر ما كان بداية انشغال شاهين بالآخر الغربي، وعلاقتنا الملتبسة به، وهو ما سنراه بعد ذلك في فيلمه «المهاجر» عام 1994 الذي اثار سخط الإسلاميين، و«المصير» 1997 (فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان) ومن ثم «الآخر». كان يوسف شاهين مشغولا جداً حتى اللحظة التي دخل فيها تلك الغيبوبة اللعينة، مشغولا في البحث عن ذاته، عن معنى حياته وحياتنا ايضاً، لم يرتح ولم يرح، بقي حتى فيلمه الأخير «هي فوضى» يناكف ويقارع، وينتقد الفساد والسلطة ويبشر بتغيير آت. وبقيت السينما بالنسبة لشاهين هي الملاذ الوحيد منذ كان صبياً صغيراً خجولا في الاسكندرية، يهرب إلى قاعاتها التي تضاء بالحكايا إلى ان أخرج فيلمه الأخير «هي فوضى» الذي يصلح اسمه كعنوان لمرحلة قد تطول كثيراً، نفتقد خلالها شاهين ونفتقد بروجكتوراته وعدساته ولقطاته البديعة واللاذعة التي كانت تفتح لنا آفاقاً في الظلمات.