«ميكا» يهزّ وسط بيروت: «ساحة الشهداء» صارت اليوم ملكاً لكم

المهرجانات اللبنانية تبلغ ذروتها

TT

بلغت المهرجانات اللبنانية ذروتها أول من أمس، بالحفل الكبير الذي اقيم وسط بيروت للنجم العالمي، ميكا، والذي انتظرته الجماهير الغفيرة منذ مطلع الصيف. ولم تكن الساعة قد بلغت السابعة مساء بعد، حين كانت أمواج البشر تزحف من كل صوب باتجاه ساحة الشهداء، حيث انتصب مسرح كبير وأقيمت مدرجات تتسع لما يقارب 20 الف شخص، تجمهروا ـ تماماً ـ في المكان الذي كان قد شهد على مدار السنوات الثلاث الماضية المظاهرات الحاشدة، والاعتصامات الغاضبة، وأشد الخطابات السياسية احتقاناً. هذه المرة كان الموعد من نوع آخر. وبدا اللبنانيون وضيوفهم من السياح متحمسين أكثر من أي وقت مضى للخروج من نفق السياسيين الكئيب إلى رحابة ميكا وموسيقاه العذبة. ولم تتعب الجماهير من الانتظار وقوفاً حيث خصصت أماكن للشبان، مع أن فرقة ميكا البهلوانية لم تطل قبل التاسعة، وعلى وقع التصفيق والهتافات. بهلوانيات وشخصيات تشبه تلك التي نراها في مدينة ديزني لاند، وألعاب خفة وموسيقى هادرة مهدت لظهور النجم المنتظر الذي جاء بجاكيت سوداء وبيضاء فيها التماعات النجوم، وبدأ يقفز ويغني أغنيتة الشهيرة «رولاكس»، فيما الحاضرون وكأنما أصابهم مسّ من الجنون، ولم يعد أحد قادراً من شدة الهيجان على الجلوس او الهدوء، وزاد الجو حماسة ان يتكلم ميكا العربية ويقول: «مرحبا! أنا كثير مبسوط كون معكن ببيروت». فرغم ان هذا الإنجليزي من أب أميركي وأم لبنانية، كان قد ولد في بيروت، إلا انه غادرها بسبب الحرب الأهلية، وهو في سنته الأولى بصحبة عائلته. وإمعاناً في التأكيد على نصفه اللبناني خاطب الحضور: «بعتذر إني ما بحكي عربي منيح، بس عم جرّب قد ما فييّ». وربما ان ميكا تحدث العربية في تلك الليلة اكثر من كثير من اللبنانيين الذين كانوا يرطنون بإفرنجيات مختلفة.

لم يبخل على جمهوره، هذا النجم الشاب الصاعد في سماء الأغنية العالمية ككاتب للكلمات، وملحن فذ، وصاحب صوت عريض المدى ينتقل في الخامات من الرفيع إلى الأشد غلظة بسرعة مبهرة، وصاحب أسلوب جعل الاقتناع بموهبته أمراً عسيراً على المنتجين الذين لم يتعودوا فرادته. غنى ميكا اكثر اغنياته شهرة، وبقي يقفز ويرقص ويعرض كل مهاراته مستنفراً طاقاته، تصاحبه فرقة موسيقية لا تقل عنه حيوية. وأسعدت أغنية «الفتاة البدينة» التي رقصت على انغامها فتيات جسيمات بشكل ملحوظ (اختارهن من لبنان بعد إعلان على مدونته) بملابس فوسفورية، الكثير من الحاضرات وكذلك امه وخالاته البدينات اللواتي حضرن الحفل، وكأنما هذه الأغنية كانت تحية لهن. أغنية خصها ميكا باستعراض مبهر حيث ظهرت خلفه فتاة بالونية عملاقة ومنتفخة وحنت عليه حتى أخذته بأحضانها، وأطلقت قطعا منفوخة ضخمة باتجاه الجمهور بينها كوب بلاستيكي عملاق، وقطعة بيتزا، واشياء أخرى، أثارت فرحاً طفولياً بين الحاضرين الذين امتزجوا اطفالاً وشباناً وشيوخاً، كلهم يرقص متعة ويصفق فرحاً، ويقفز مقلداً ميكاً، حتى كنت تظن ان هذه المدرجات المحتشدة ستنهار تحت وقع أرجل «المطروبين».

كان الحفل أكثر من متعة موسيقية وإبهار بعروض تشارك فيها الأضواء وشخصيات تشبه تلك التي نراها في السيرك، وراقصات لا يخضعن لمقاييس عارضات الأزياء، فقد أمطر المسرح ناراً واستضاء قوس قزح، واستعرض هذا الفنان الفذ قدراته في العزف على «الكيبورتز» وعلى «الدرامز» بطرق خاصة وتبارى في عرضه هذا مع إحدى العازفات في فرقته، كما سمعنا وصلة شائقة من عازفة الغيتار التي ترافقه. كل شيء مع ميكا من الممكن ان يتحول إلى اداة للفرح بما في ذلك، ان تشاهد عرضا حيا للرسوم المتحركة أدته شخصيات لحيوانات من وراء شاشة شفافة. وهي عروض تسهم في ابتكارها اخت ميكا التي ترافقه كما هي حال والدته التي تكاد تكون ساعده الأيمن في كل تحركاته، منذ واكبته صغيراً بعد معاناة كبيرة مع مرض الـ«ديسليكسيا» والخرس الذي لازمه مدة، وتغلب عليه بالعزف على البيانو، وبلغة بديلة هي: الموسيقى.

رمزيات حفل ميكا في بيروت الذي نظمته مهرجانات بيت الدين وبعلبك معاً، كانت مؤثرة، فميكا نفسه حلم طويلاً بأن يغني في هذا المكان. والمكان بكل ما عرفه من أحداث أليمة كان بحاجة لفنان له شعبية ميكا والقه كي يعيد اليه الزهو الذي يحتاجه. تنظر حولك وانت تجلس على المدرج فتجده مزنراً بجامع الأمين الذي يرتاح بقربه جثمان الرئيس الراحل رفيق الحريري بمئذنته وقبابه الزرقاء، ومن الجهة الأخرى كنيسة مار مارون التي مر بها سمير قصير بعد اغتياله، وهنا ايضاً يقع المبنى الشاهق لجريدة «النهار» حيث انطلق موكب تشييع جبران تويني بعد استشهاده.

لقد كانت هذه الساحة الحزينة بحاجة لمن يخرجها من ألمها الذي طال كثيراً، وميكا الذي يعرف قصة بيروت جيداً لقرابته معها كان فخوراً بإنجازه. وعند نهاية الحفل لم ينس ان يشكر حضوراً كان استثنائياً في حبه وشوقه واندماجه. وفي هذه اللحظة المؤثرة قال لهم، انه سعيد ان يغني هنا، وبنبرة فرنسية عالية قال صارخاً: «لقد صارت ساحة الشهداء ملككم اليوم».