السقاؤون المغاربة.. مهنتهم مهددة بالاندثار

من الوقوف في الساحات إلى حضور حفلات الزفاف

فتاة مغربية تشرب الماءَ في آنية نحاسية من يد أحد سقائي مدينة الرباط (تصوير: مصطفى حبيس)
TT

السقاء هو مَنْ يسقي الناسَ وإرواء عطشهم، وفي المغرب يسمونه بالعامية «الكراب». رجل غالباً ما يكون في الخمسين أو الستين من عمره، يرتدي زياً تقليدياً مميزاً بلونه الأحمر المزركش، ويعتمر قبعة كبيرة تقيه حر الشمس، ويتأبط قِربة حافظة للماء، مصنوعة من جلد الماعز، مرتبطة بصنبور من النحاس، بالإضافة إلى حقيبة مزدانة بعملات معدنية مغربية قديمة.. يمسك بيديه جرسا صغيرا للفت الانتباه إليه، وأوانيَّ وكؤوساً نحاسية وفضية، ويحرص على تلميعها وتنظيفها باستمرار، لكسب عطف الزبائن ورضاهم. يقول سي محمد، السقاء في الحي الأثري الأوداية بالرباط، إن يومه يبدأ باكراً، مع ارتفاع أذان الفجر، إذ يتوضأ ليصلي، ثم يلبس رداء العمل، متوكلاً على الله، ويخرج في طلب الرزق، بعد ان يتناول فطور الصباح، وهو عبارة عن كسرة خبز مغمسة في صحن زيت الزيتون، وكأس شاي. «هذه هي وجبتي الرئيسية إلى حين عودتي في المساء»، على حد تعبيره.

يسكن سي محمد في ضاحية بعيدة عن المدينة، ويعرف أن أمامه مسافة لابد من قطعها مشيا، قبل الوصول إلى أول محطة للحافلات. في السوق القديم، وسط المدينة، ثمة نافورة للماء الصالح للشرب. يأخذ منها كفايته لملء القربة، ثم يمضي متنقلا بين الأزقة التي تكثر فيها حركة الراجلين، تسبقه رنات جرسه النحاسي الصغير، معلنة عن قدومه، إلى أن يتوقف قريبا عند إحدى بوابات حي الأوداية التاريخي. «أفضل الوقوف في هذا المكان لكثرة الزوار والسياح المترددين عليه، وهم في الغالب لا يشربون من مائي، ولكنهم ينفحونني دريهمات قليلة مقابل التقاط الصور معي للذكرى إلى جانب السور».

سي محمد يعتقد أن دوره في جلب السياح لا يقل أهمية عن المعالم الأثرية التي تزخر بها المدينة، ويؤاخذ الوزارة المكلفة السياحة كونها لا تخصص له ولزملائه من السقائين، أية منحة شهرية تعينهم على مواجهة تكاليف الحياة، خاصة أنهم يضفون حضورا متميزا على الساحات والأسواق في كبريات المدن المغربية، مثل ساحة جامع الفناء بمراكش، وساحة النافورة بالدار البيضاء، وفضاء صومعة حسان بالرباط، وباب بوجلود في مدينة فاس. وقابلنا سقاء آخر، هو مبارك الشيباني، واسمه العائلي، كما هو مدون في بطاقة هويته «العيمة»، «لكنني مشهور بالشيباني، ربما لتقدمي في السن»، يضحك ساخرا بفم يكاد يكون خاليا من الأسنان. ويضيف أنه من مواليد سنة 1930.

«أنا في السن الذي يتعين علي فيه أن أرتاح من العناء، ولكن ليس لديَّ أي تقاعد»، يتحدث بنبرة حزينة وعيونه تتابع المارة. يقف الشيباني زوال كل يوم أمام باب حديقة متنزه حسان، وسط العاصمة السياسية. حياته كلها أمضاها في هذه المهنة، التي استطاع من خلالها، أن يربي أبناءه الثلاثة، رغم محدودية الدخل الموسمي في الصيف، «أما في فصل الشتاء، فإن هذه المهنة تعاني الكساد، وأصرف على عائلتي من بعض المدخرات، إن وجدت، أو ألجأ إلى الاقتراض من صاحب محل التغذية العامة في انتظار أن يفرجها الله، كما أستفيد أحيانا من أريحية بعض المحسنين»، حسب قوله. وإحدى بنات الشيباني تزوجت أخيرا، لكن أحد ابنائه، وعمره حوالي الثلاثين، معاق، وليست لديه قدرة على العمل، وهذا ما يحز في نفسه. أصيب الشيباني بنقص ملحوظ في السمع، ولا قدرة مادية له على شراء جهاز مساعد على السمع. لكي تتحدث إليه يجب أن ترفع صوتك عالياً. يقول إن أمنيته الوحيدة التي يحلم بتحقيقها هي أداء مناسك الحج. وكلما أدى الصلاة رفع يديه بالدعاء عسى أن يستجيب له الله، قبل أن يلحق برفاقه السقائين الذين سبقوه إلى دار البقاء، مستعرضا أسماءهم بكل حزن وتأثر: «الحاج غلالة ومصطفى الأمين والعبدي وغيرهم».

عندما يتذوق الزبون ماء القِربة، فإنه يلمس أنه ممزوج برائحة القطران. ويفسر السقاء عبد القادر ذلك بأنه صحي، ولاخوف منه، بل يساهم في إرواء العطش، وإعطاء الإحساس بالإرواء والاكتفاء. غير أن السقاء عبد القادر بدأ يلاحظ إحجام بعض شباب ونساء اليوم عن شرب ماء السقاء، مفضلين عنه قنينات الماء المعدني، بدعوى أنها اكثر أماناً وغير مضرة بالصحة. ويؤكد السقاء عيوش أنه لم يسبق لأي زبون او زبونة التعرض لأي مغص نتيجة تناوله ماء القربة، مضيفا «أن الحفاظ على السمعة الشخصية يقتضي منا جميعا، نحن معشر السقائين، تنظيف وتطهير أدوات العمل، فهذا هو مصدر رزقنا الوحيد، ولا نمارسه إلا بترخيص من السلطة المحلية، وأي واحد منا أخطأ في عمله فهو مهدد بالتوقيف والطرد». وإذا كان أغلب السقائين الحاليين ورثوا المهنة عن آبائهم، أو أحد معارفهم، فإن الجيل الحالي يرفض بتاتا أن يمارس أحد ابنائه «هذه المهنة المهددة بالانقراض، والتي لا تورِّث إلا الفقر والمرض وانحناء الظهر، وإثارة نظرات الشفقة في عيون بعض الناس الذين ينظرون إلينا كمتسولين، وليس كأصحاب مهنة من المهن التقليدية القديمة»، يقول أحدهم، رافضا الكشف عن اسمه الشخصي بالكامل.

ويتحاشى السقاؤون غالبا الإدلاء بأسمائهم كاملة للصحافة، إحساسا منهم أن ذلك قد يعرِّضهم لمساءلة ومتاعب هم في غِنًى عنها، فيكتفون بذكر الاسم الشخصي فقط، وقد يكون غير صحيح، تفاديا لوجع الرأس، فهم مسالمون وبسطاء ولا قدرة لهم على مواجهة أيِّ أحدٍ في الإدارة العمومية او غيرها، حتى وإن اكتشفوا ذات يوم صورهم مطبوعة على البطاقات البريدية الملونة، وتباع في أكشاك الصحف والجرائد، كمنتوج سياحي»، كما يعبر عن ذلك أحدهم بغصة في الحلقة وحسرة في النفس. والقواسم المشتركة بين غالبية السقائين في المغرب، هي التقدم في السن من خلال التجاعيد التي تكسو وجوههم، والشكوى من المعاناة جراء صعوبة العيش، والخوف من غدر الزمن، في غياب أي نظام للتأمين الاجتماعي، لأن المهنة غير مهيكلة، ولا تخضع لأي قانون كفيل بتأطير العاملين فيها ومساعدتهم اجتماعياً. كما يشكو بعضهم من الغلاء الذي مس جميع الأدوات التي يشتغلون بها.

يقول السقاء عمر، إن القربة ارتفع ثمنها إلى 400 درهم، (55 دولارا) بالإضافة إلى تكاليف عملية دبغها لتصبح صالحة للاستعمال، ولا يدوم عمرها الافتراضي إلا حوالي ستة أو سبعة شهور على الأكثر، تصاب بعدها بالتهتك والتلاشي. أما الأواني النحاسية والجرس واللباس والقبعة، وغير ذلك من مستلزمات المظهر العام، فإنها تتطلب مبالغ مالية باهظة، تفوق القدرة المادية لأيِّ سقاء، وقد تبلغ حدود 1500 درهم فما فوق (205 دولارات)، ولا يتجاوز المدخول اليومي في احسن الحالات وفي ذروة موسم العطل والإجازات أكثر من 60 درهما، (حوالي 8 دولارات). وفي الآونة الأخيرة أصبح السقاء أحد المكملات في بعض حفلات الزفاف في المغرب، يتم استقدامه بغرض إدخال نوع من التنوع على الأعراس، كمظهر يحيل على التراث المغربي، وما يحبل به من أصالة وحضارة وتاريخ. ويعلق السقاء العياشي على ذلك، قائلا «أتمنى لو أن هذا الاهتمام بحرفة السقاء يأخذ صبغة رسمية لإعادة الاعتبار إليها، والحفاظ عليها من الاندثار، فهي مثلها مثل الصناعة التقليدية التي تشكل جزءاً من هوية البلد، ويستحق ممارسُهَا أن تكون له وضعية اجتماعية تحفظ كرامته وحقوقه كإنسان يسعى للعيش الكريم».