بن عيسى و3 عقود من التطوير لموسم أصيلة الثقافي

اهتم بالتفاصيل الصغيرة وتعامل مع الواقع دون تضخيم

اصيلة مدينة الفنون («الشرق الأوسط»)
TT

على مدى ثلاثة عقود، دون احتساب وقت الإعداد للتأسيس، لم يتوقف ذهن، محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، عن التفكير الدائم في تطوير الموسم الثقافي الدولي الذي أصبح إحدى العلامات المميزة في الداخل والخارج، لمدينة أصيلة، وهو يحتفل خلال دورته الحالية، بمرور ثلاثين سنة على انطلاقه.

صدرت النسخة الأولى من أعداد الموسم، ذات صيف، من عام 1978، في ظل أجواء سياسية وثقافية وسياقات اجتماعية بالغة الاحتقان، مختلفة تماما عن الصورة التي أصبح عليها المغرب في الظروف الراهنة. فمثلما تغيرت البلاد وتدرجت نحو الأحسن مع مرور السنوات، في مراقي الانفتاح الديمقراطي، كذلك خضعت مواسم أصيلة الثقافية المتتابعة، لنفس الحتمية الطبيعية، فتوالت نجاحاتها، كما وكيفا، وتحسنت أساليب التنظيم والتدبير، وتشعبت مجالات اشتغالها وعلاقاتها، فامتدت نحو آفاق جديدة، لكنها في مسيرتها العامة، لم تتخل عن جوهر المنطلق الأصلي، كما لم تنعطف عن روح مبادئ «البيان الأول» غير المكتوب، الذي أكد وشدد، بلغة بدت غير مألوفة في القاموس الثقافي المتداول، على أن تبقى التظاهرة فضاء مفتوحا، تتناظر فيه الأفكار وتتحاور الآراء والفلسفات، دون قيود أو خلفيات إيديولوجية قطعية، مثلما هو ساحة حرة، يعرض فيها الفنانون المبدعون ما تفتقت عنه قرائحهم ومواهبهم وأحاسيسهم، وأبدعته ريشتهم من ألوان وأشكال. يشاهدون على الطبيعة كيف يتذوق ويتأمل الجمهور الزائر، أعمالهم، في الموسيقى والنحت والتشكيل وغيرها من ألوان الفنون السمعية والبصرية. وأحيانا يستمتع الزوار ويتابعون لحظة الخلق والتكوين، للوحة ينشئها مبدعها، لحظة بلحظة، أو يدخلون في حوار معه، في مشاغل الفنون.

منذ البداية، وهذا أحد أسباب نجاح مشروع أصيلة، تعامل محمد بن عيسى ورفاقه في «جمعية المحيط الثقافية» مع الواقع دون تضخيمه؛ انطلاقا من حسابات بسيطة ولكنها مضبوطة. نظرت المجموعة إلى واقع أصيلة الثقافي والاجتماعي، وحاولت تشخيصه كما هو. وحيث أن المعارك الصغيرة والكبيرة، لا يمكن نيلها إلا بالتخطيط الواعي والتنظيم المحكم، فإن «جمعية المحيط»، قبل ان تتحول الى مؤسسة منتدى اصيلة، اتخذت لنفسها هدفا وحددت وسائل العمل، بعد تفكير ونقاشات ممتدة بين أعضائها خلال جلسات سمر وسهر، وتشاور مع السكان، ليصل الجميع إلى قناعة أولية مفادها أنه يمكن للثقافة أن تجلب الخير لمدينتهم، وتكون مفتاح انتعاشها ونموها؛ ما تطلب منهم صياغة برنامج عمل متدرج، راهن منذ بدايته ومنتهاه، على الإنسان المقيم في المدينة. الحلف أو العهد، الذي ربط سكان مدينة أصيلة بالمجموعة الطليعية، الخارجة من دروب مدينتهم، سيذلل الكثير من صعوبات البداية، بل المهم أنه أشاع ثقافة جديدة، قوامها التضامن والتآزر والثقة بين الطرفين، سيتجلى ذلك في أشكال تضحيات بسيطة أبدى السكان استعدادا لبذلها، لكنها كانت دافعا ووقودا، أيقظ حماسة المترددين والمتقاعسين.

كسبت الجمعية الرهان محليا، وستكتشف فيما بعد، أن شغفها المثير في أصيلة، وإقبال المفكرين والأدباء والسياسيين عليها في مواسم فصل الصيف، سيضعها تحت مجهر الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يسعده دائما أن تكون بلاده ملتقى للوافدين من الخارج؛ يؤمها المفكرون والمبدعون والفنانون ورجال السياسة. وكأن الملك الراحل، يكمل الصورة الناصعة التي أرادها لبلاده، بما كان يقوم به شخصيا، من جهود ومبادرات في المجال الدبلوماسي، باستضافته عددا من المؤتمرات الدولية والإقليمية، ولقاءات المصالحة، دخلت حوليات السياسة العالمية، وأعطت الانطباع في الخارج أن المغرب ليس بصورة البلد المنغلق المحافظ، بل أرضا مفتوحة للأفكار والموضات والسلع؛ ينعم سكانه بقسط معقول من الحرية. ومن دلائل اهتمام الملك الراحل بما كان يجري في أصيلة، أنه أبدى تسامحا استثنائيا مع عدد من المدعوين لمواسمها، ممن كانوا موضوعين، خطأ أو صوابا، على اللوائح السوداء، إما في أوطانهم أو في المغرب من قبيل الاحتياط الأمني، فأصدر الراحل توجيهات بإعفائهم من إجراءات التأشيرة، فدخلوا البلاد، مطمئنين، بضمانة من محمد بن عيسى.

تلك «العناية اليقظة» منحت بن عيسى قناعة واطمئنانا أنه يسلك طريقا يرضى عنه العاهل الراحل بشكل من الأشكال. وهكذا خطا خطوات أكثر جرأة، وأصبحت المواسم الثقافية المتتالية، محفلا فكريا وفنيا وسياسيا، بامتياز. كانت المناداة على محمد بن عيسى، ليتقلد مهام وزير الثقافة عام 1983 ضمن ائتلاف حكومي، مكافأة له، من جهة على نجاح نموذج التنمية الذي طبقه في أصيلة، مثلما كان اختياره للمنصب، وهو الجديد على الإدارة الحكومية، اختبارا لمتانة الرابطة القائمة بينه وبين مدينته.

روج منتقدون، في ذلك الوقت، أن بن عيسى، نال بغيته، بالوصول إلى سدة الوزارة، وبالتالي لم تكن مواسم اصيلة، في ظنهم، إلا مطية وضعت ذلك العائد من إقامة طويلة في الغرب، دارسا في الجامعات الأميركية، ثم خبيرا لدى الأمم المتحدة، وضعته تحت الأضواء ولفتت الأنظار إليه، معتقدين أن القيود والأعراف الرسمية، ستحد من حرية الوزير، جريا على عادات مرعية، وتجعله يتردد قبل الانخراط في نشاط ثقافي أو سياسي مستقل. فكيف يتصرف الوزير، صديق الفنانين والأدباء، وهو غير مسنود حزبيا ولا من طرف قوة اقتصادية، حيال هذه الإشكالية؟ وكيف سيوفق مستقبلا، في شخصه بين الفاعل الجمعوي، والموظف السامي الرسمي، بدرجة وزير؟

لحل هذا الإشكال، سيبرهن أمين عام منتدى أصيلة، على درجة متقدمة من الواقعية والبراغماتية، وأنه لا يهرب من مواجهة الاختيارات الصعبة، كونه يجمع في شخصيته بين صفتي الإقدام والمراهنة المحسوبة على الفكرة الصائبة. ولذلك، فإن أول ما بدأ به عهده في الوزارة، ذات المدلول الرمزي الكبير، والموازنة المحدودة، أن نقل الكثير من أساليب العمل المجربة في أصيلة إلى الوزارة التي تحولت في عهده إلى خلية نحل، بعد أن ظلت مهجورة يتحاشاها أغلب المثقفين، مخافة أن يقال عنهم إنهم أصبحوا، رسميين.

اتخذ الوزير بن عيسى قرارات غير مسبوقة، من قبيل انفتاحه على صحافة بلده بكل أطيافها. أعاد النظر في الوسائل المحفزة على الإنتاج والاستهلاك الثقافي، فأسس معرض الكتاب الدولي في الدار البيضاء، ورفع قيمة الجوائز الثقافية، وأجزل العطاء قدر الإمكان، للمنظمات والجمعيات الثقافية مثل اتحاد كتاب المغرب. اعتنى بالتراث وأعاد الروح إلى المتاحف ورمم الآثار، وذلك بتأسيس صندوق للتنمية الثقافية.

سيخيب بن عيسى، ظن من توهموا أن إغراء المنصب الرسمي، سيصرفه عن أصيلة، أو يفك ارتباطه الوثيق بها، خاصة وقد أصبح بعيدا عنها مكانيا، سفيرا لبلاده في واشنطن. من واشنطن، ظل السفير، متابعا لما يقع، ولما ينبغي أن يحدث في أصيلة، فهو أيضا رئيس بلديتها، ما يقتضي منه الانكباب على الملفات الصغيرة والكبيرة المتعلقة بمصالح السكان الذين يعتبرونه واحدا منهم، يظهرون له الود التلقائي حينما يكون بينهم في مدينتهم، يستوقفونه في أزقتها ويبوحون له بمشاكلهم وشكواهم من صعاب الحياة التي تواجههم، فيصغي إليهم دون استعلاء يصدمهم. لو أراد مؤرخ، أن يجمل أسباب نجاح مواسم ومشروع أصيلة الثقافي، فماذا يا ترى عساه يكتب بالمختصر المفيد، عن الإنسان الذي ظل ساهرا على صيانة ذلك الصرح لأكثر من ثلاثة عقود؟ طالبا من الله أن يمنحه القوة والعافية ليقدر على تحمل الأعباء مع الذين قاسموه أعباء الطريق وذاقوا معه طعم المعاناة.

لا شك أن ذاك المؤرخ الافتراضي، سيبحث أولا عن مفتاح شخصية أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة. وعدا الشمائل الإنسانية التي سيكتشفها، سيدرك أن سر نجاح ابن أصيلة، يكمن في أنه تعلق دائما ومنذ طفولته بالطموحات الكبيرة دون أن تنسيه الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة. إنه لا ينتقل من ملف أو مشروع إلى آخر، حتى يكون متيقنا أنه لم يغفل شيئا أو تركه للصدفة. ذلك أسلوبه فيه منهجه في الحياة.