حقيبة الإسعاف و«المثلث العاكس» يفجران جدلا مروريا في القاهرة

دشنهما قانون جديد يبدأ تطبيقه اليوم

انتعشت حركة بيع حقيبة الإسعاف والمثلث ووصل سعر الحقيبة إلى 300 جنيه («الشرق الأوسط»)
TT

في مدخل شارع سورية بمنطقة المهندسين الراقية وسط القاهرة، خرج جابر كالمجنون من سيارته (التاكسي) التي يعمل على متنها يومياً نظير 50 جنيهاً بعد توريد 150 أخرى لصاحبها، حاول الاعتداء بالضرب على إحدى زبائنه، لكن تجمع المارة الغاضبين من سبابه وإهانته للمرأة حال دون تنفيذ ما نوى عمله. كاد جابر يتعرض لفتك هؤلاء. ووسط الغضب والسباب، تنبه لذلك فحوَّل اتجاه سبابه «الله يخرب بيتكم، البنزين يا جدعان بـ175 قرشاً اللتر والست دي بتديني 5 جنيهات من صفط اللبن لهنا (مسافة طولها 5 كيلومترات تقريباً) هو في حد بيرحم، هنلاقيها من البنزين ولا المخالفات ولا إيه».

صوت جابر الذي وصل لمرحلة ما قبل البكاء كان كفيلاً بأن يغفر المتجمِّعون حوله فعلته الشنيعة في عرف المصريين، وهي إهانته لامرأة.

على جانب إشارة المرور، كان سالم بائع مناشف السيارات قد أضاف لتجارته عدة حقائب بلاستيكية كتب عليها «شنطة إسعاف» بعد أن نص قانون المرور الجديد على وجود حقيبة تحتوي على مواد طبية كالشاش والثلج المجفف والمطهر الطبي في السيارة. ومَنْ يخالفْ ذلك سيتعرض لغرامة مرهقة. كان سالم بصدد عرض بضاعته على جابر، لكن مشهد المعركة أغرى فضوله بتتبعه ونسيَّ غرضه الأساسي.

في طريق العودة إلى ميدان التحرير كان جابر قد هدأ قليلا، وحكى لي عن معاناته المستمرة مع نفقات السيارة «هي ناقصة شنطة إسعاف ومثلث؛ ما كفاية علينا تمن مخالفات الحزام اللي خاربة بيوتنا».

قال ذلك ثم أزاح حزام الأمان من على كتفيه بشكل صوري ليتفادى رصد عينيّ أمين الشرطة الواقف على بعد خطوات من الإشارة. قبل سنوات، عاشت مصر ضجة شبيهة مع فرض استعمال حزام الأمان في السيارات وتدريجياً اتخذت الأمور بعدا دراميا، فالفرض المفاجئ للحزام أنتج سوقا سوداء للأحزمة بيعت فيها بعشرات أضعاف ثمنها، والرغبة في التحايل دفعت البعض الآخر لاستعمال أحزمة الحقائب بل الملابس لخداع الشرطة، ووصل الأمر إلى أن ارتدى سائق سيارة أجرة «تي شيرت» يمر من أعلاه إلى منطقة البطن خط طولي يشبه الحزام.

على بعد أمتار من ميدان التحرير حيث أنزلني جابر كان محل «بطاح» لمستلزمات السيارات يعلن في عدة لوحات بعرض الشارع عن توفر «حقيبة الإسعاف الحاصلة على الآيزو 1901»، تركية الصنع بسعر 40 جنيها، ومثلث عاكس بـ15 جنيها، ثم يتذيل الإعلان بالشعار الآتي «منعاً للجشع والاحتكار أسعارنا هي الأرخص».

في داخل المحل، كشف جمال خليفة مدير المبيعات سر الشعار، يقول جمال «حركة البيع لحقيبة الإسعاف والمثلث كانت شبه جنونية خوفا من العقاب القانوني، ووصل سعر الحقيبة إلى 300 جنيه في السوق السوداء، وتفنن البعض في خداع الناس، فباعوا حقائب للماكياج كتبوا عليها إسعاف، وباع البعض الآخر حقائب جلدية وبلاستيكية، ولكننا نتبع المواصفات القياسية التي حددتها الداخلية».

انتهى خليفة من كلامه الذي تناقض بشدة مع ما حملته الأخبار عن تأجيل إلزام السائقين بحقيبة الإسعاف لمدة ثلاثة أشهر أخرى رغم تطبيق بقية مواد القانون ابتداء من اليوم طبقا لبيان النائب العام المصري. وبررت الوزارة التأجيل بإتاحة الفرصة لانتهاء اللجنة المشكلة من سبعة أعضاء ممثلين لجهات مختلفة؛ منهم الكاتب صلاح منتصر وبرئاسة نقيب الأطباء المصريين من تحديد المواصفات الحقيقية لحقيبة الإسعاف.

بجانب محل «بطاح» كان هناك «علاء الدين الصيني» و«رضا مراد وإخوته»، بالإضافة إلى عشرات الباعة على رصيف التوفيقية، وكل منها يبيع حقائبه ومثلثاته المختلفة في الشكل والسعر والمحتويات، والمثير أن البيع لا يتوقف.

في مقاهي منطقة عرابي القريبة من التوفيقية وسط القاهرة كان الجدل يأخذ منحنى حاداً بين محمد عبد العظيم (مرشد سياحي) وصديقه أسامة مدرس اللغة الإنجليزية بإحدى المدارس الخاصة على إثر تصفحهما بعض الصحف الخاصة التي حملت أخباراً عن القانون الجديد.

قال عبد العظيم: «يا عم دي سبوبة وراها ناس عايزة تهبش، هو اللي يموت في حادثة هيعرف يستخدم الإسعافات الأولية وهو غرقان في دمه». فرد أسامة: «ليه احنا ضد كل جديد، لازم نفتكر أننا أعلى معدل حوادث طرق في العالم». تراشقُ الصديقين تطور إلى حلقة من صراع الديوك، من حزام الأمان إلى سلوكات المصريين الخاطئة إلى السخرية من تكوين لجنة لكل مشكلة في مصر غالبا تكون مقبرة لكل تطوير.

طيلة ساعتين، كانت حلقة النقاش تتسع، وتتشعب يقول أحدهم: «هل تحتاج حقيبة طبية إلى لجنة تعمل ثلاثة شهور، إذن كيف سنواجه فيروس الكبد الوبائي الذي يحصد 12% من المصريين». ويرد آخر: «هو كل حاجة في البلد حبس وسجن، لازم الناس تتعامل بالعصاية».

هدأت الأصوات تدريجياً حتى كان الانصراف في العاشرة مساءً، وبينما أنا غارق في تحليل المناقشات أثناء عودتي مارا بالتوفيقية تنبهت إلى صوت مألوف يصيح بالسباب، إنه جابر يتشاجر للمرة الثانية مع البائع على ثمن الحقيبة والمثلث.