الحرير الدمشقي.. عائلات شهيرة عملت به منذ مئات السنين

لبسته الملكة البريطانية إليزابيث في حفل زفافها

اندثرت صناعة الحرير الدمشقي اليدوية لتحل محلها الصناعات الآلية و لم يبق في دمشق سوى نولين يدويين
TT

اشتهر الدمشقيون ومنذ مئات السنين بمهارتهم في صناعة النسيج وابتكروا منها أنواعاً كثيرة؛ ومن أهمها الدامسكو المشتق من اسم دمشق وهناك البروكار أو الحرير الدمشقي والأغباني وغيرها. وكانوا يصنعون هذه الأنسجة باليد ومن خلال أنوال يدوية، ولكن مع دخول الآلة مع استمرار العديد من العائلات التي اشتهرت بإنتاجها في العمل من خلال ورش ومصانع آلية.

ولعل الأشهر في مجال الأنسجة الدمشقية هو البروكار. وأخذ اسمه المركب من (البرو) أي الحرير و(الكار) أي المهنة؛ مهنة الحرير الدمشقي الطبيعي حيث عرفه الدمشقيون منذ مئات السنين من خلال عائلات شهيرة عملت به ومنها النعسان والمزنر ومتيني واللحام والداية وغيرها.

لكن بعضا من هذه العائلات ترك العمل بالبروكار مع دخول الآلة. وحالياً لم يبق في دمشق سوى نولين يدويين، الأول في سوق المهن اليدوية بالتكية السليمانية والثاني في مدرسة العظم قرب قصر العظم بسوق البزورية بدمشق القديمة. وهذان النولان يعملان بشكل بسيط فقط ومن أجل المعارض أو أمام السياح لجذب انتباههم كي يشاهدوا النول التراثي، وهو ينتج البروكار، في حين أسس المزنر معملاً حديثا قبل حوالي 120 عاماً ما زال يعمل في دمشق، وهو الوحيد بحجمه الكبير وآلاته المتعددة في المنطقة، وسينتقل بعد أشهر قليلة إلى منطقة التجمع الصناعي قرب دمشق. وتحدث حفيد ومدير المعمل طوني مزنر عن البروكار وتاريخه وواقعه الحالي لـ«الشرق الأوسط»: «إن البروكار مهنة قديمة نعمل بها منذ 150 سنة وتوارثناها أباً عن جد. وما قام به جد والدي أنطون الياس مزنر، هو أنه نقل صناعة البروكار من شكلها اليدوي إلى الشكل الآلي، من خلال تحويل الأنوال الخشبية اليدوية إلى الأنوال الآلية، وهذه كانت سابقة حصلت من خلال مصنعنا في باب شرقي عام 1890. وعندما دخلت الكهرباء إلى دمشق كنا ننتج البروكار بشكله الميكانيكي». ويؤكد طوني أن البروكار المنتج آلياً أفضل من اليدوي الذي لم يعد له وجود حالياً. ومن يقول إن لديه بروكاراً منتجاً يدوياً فهو غير دقيق وهدفه سرقة الزبون بإيهامه بذلك. والبروكار كلمة فرنسية تعني قماشا حريريا تدخل فيه رسوم متنوعة بألوان متعددة؛ ومنها خيط مذهب أو مفضض من الفضة، وهو مشهور وعريق، وأخذ شهرة عالمية من خلال ارتدائه من قبل شخصيات مهمة، من أبرزها الملكة اليزابيث، قبل ستين عاماً في حفل زفافها. و«الثوب الذي قدم هدية للملكة اليزابيث من قبل الحكومة السورية أخذ من معملنا، وللأسف كل من عمل بالبروكار ينسب فستان الملكة اليزابيث إليه. وسأروي لك قصة فستان الملكة اليزابيث: ففي الخمسينات من القرن الماضي، كان شكري القوتلي رئيساً لسورية وعن طريق السفارة السورية بلندن، طلب القصر الملكي ثوباً من البروكار الدمشقي لحفل زفاف الملكة، فأرسل الرئيس القوتلي مراسم القصر الجمهوري إلى معملنا في باب شرقي. واشترى البروكار من عندنا. وكانت الرسمة عليه عصفورين يقبلان بعضيهما بعضاً (العاشق والمعشوق). والملكة اختارتها من خلال عرض نماذج عليها، والتي أصبحت فيما بعد مشهورة جداً. ويقولون عنها نقشة الملكة اليزابيث. والقماش هنا أرضيته بيضاء وعلى جناحي الطيرين خيوط الذهب من عيار 12. كذلك شاهدت قبل ثلاث سنوات الملكة رانيا العبد الله تلبس روب بروكار، وكذلك شاهدت كوفي أنان أمين عام الأمم المتحدة السابق يلبس ربطة عنق من البروكار، ولكن لا أدري من أين حصلا عليها هل هي هدية لا أدري؟!.. بالنسبة لنا نحن صممنا لباس البابا الراحل يوحنا بولس والذي كان عليه النقش الكنسي. والبابا الحالي بنديكتوس اقتنى أيضاً هدية من قبلي وهي البروكار الدمشقي من إنتاجنا. وكان طول الروب 12 متراً وعليه نقشة الصليب الخاصة بالبابا، وكتبت عنه وعن جماليات الروب صحف ومجلات كثيرة. أيضاً قمنا بتصنيع بروكار بمساحة (112 متراً) عرضت على الجدران في قصر الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في الرياض، وهو من إنتاج معملنا. وأعجب به الملك الراحل كثيراً وأرسل لوالدي، روني مزنر، بطاقة شكر ما زلنا نحتفظ بها ونعتز بها، وعليها الختم الملكي وأنا أعتز أيضاً بأنني تقدمت في العام الماضي للمشاركة في تصميم غطاء الكعبة المشرفة، ولكن لم أوفق بالحصول على شرف تصميم الغطاء، حيث فاز به مصنّع مصري وهو غطاء أسود عليه زخارف الصرما. وأتمنى العام المقبل أن أحصل على هذا الشرف الكبير بتصميم غطاء الكعبة المشرفة من البروكار الدمشقي». وحول إمكانية غش البروكار، قال طوني «من الممكن غشه بإضافة خيوط بوليستر أو قطن أو نايلون له؛ وبالتالي لا يكون هنا حريراً طبيعياً». وشرح طوني لـ«الشرق الأوسط» طريقة كشف البروكار المغشوش من خلال حرق خيط الروب، فإذا كان الحرير طبيعيا تماماً فسيعطي الحرق رائحة مثل رائحة حرق شعرة من شعر الإنسان. وفي نهاية مرحلة الحرق يتجمع وينكمش الخيط. أما القطن فيحترق مثل الورق تماماً. والفيسكوز هو حرير نباتي يحترق مثل القطن والورق، ونميز بين الفيسكوز والقطن بخيط الفيسكوز ونبرمه بعكس الاتجاه العادي فيتحول لقطع صغيرة». وحول الرسمات على البروكار، قال طوني: «هناك رسوم تقليدية نباتية وتاريخية وهندسية يصل عددها إلى حوالي 200 نقشة، ومنها رسمة عمر الخيام ومعركة صلاح الدين والفراشة ووردة كبيرة. وكل رسمة تتناسب مع الهدف من استعمال البروكار، والبعض يطلب منا رسمات خاصة». وحول الأشكال والنماذج التي تصنع من البروكار إضافة للأرواب، قال طوني: «هناك البروكار السميك بألوانه السبعة، نصنع منه ستائر للنوافذ (برادي) وأغطية لأطقم الجلوس في الصالونات، ويتم تنجيدها كونها تتحمل الضغط. أما البروكار الناعم فنصنع منه شالات نسائية وأرواب ديشامبر وفساتين نسائية وجاكيتا نسائيا أيضاً وربطات عنق للرجال. وما يميز البروكار كقماش حريري طبيعي هو رسوماته وطريقة الحياكة والعرض حيث نعمل على الروب حتى لو كان عرضه 90 سم، بينما في الأنواع الأخرى من القماش لا تصنع إلا بعرض يزيد عن المترين. أما طريقة تحضير وتصنيع البروكار، فيحتاج لفن ومهارة حيث نأتي بالحرير ونبرمه لتقوية الخيط وتسميكه وعدد البرمات هنا ذات سرية حيث عليها تتوقف سر مهنة البروكار، ومن ثم يتم صبغه بالألوان المتنوعة بعد ذلك يكر ليوضع على بكرات». لكن على قلة العمل اليدوي اليوم، هناك من يسير ضد التيار فيواصل الالتزام بالتقاليد القديمة. فالشاب كنان طافش يعمل على نول يدوي في سوق المهن اليدوية، ويعود للحرفي أحمد شكاكي الذي عمل على النول منذ 35 عاماً. وهو يشارك بمعارض خارجية في فرنسا وألمانيا وواشنطن. وقال كنان لـ«الشرق الأوسط»: «العمل على النول لم يعد مجدياً أو مربحاً ونصنع بعض القطع اليدوية بحيث لا تتجاوز مساحة ما ننتجه 25 سم مربعا إلى نصف متر وبلون واحد فقط في اليوم وهو أسهل وللعرض فقط أو إذا طلب أحدهم شراء قطعة بروكار مصنعة يدوياً وهذا نادر جدا.ً فدخول الآلة قضت على مهنتنا اليدوية، وأنا أعتبر نفسي آخر شخص شاب (حيث هناك شخصان فقط كبيرا السن يعملان حالياً ولكن بشكل محدود جداً) يعمل على النول اليدوي. ولن يشتغل أحد بعدي عليه، خاصة أن وزارة السياحة لم تقدم أيَّ دعم لهذه المهنة اليدوية. وللأسف أيضاً أن بعض من يمتلك المال صار يشتري البروكار، ويضارب به في الأسواق أو يغشه بالحرير البوليستر، ثم يبيعه على أنه بروكار، وهذا يسيء لنا وللمهنة بشكل عام كما أن الأمور ضاقت بنا، فالسائح الذي يشاهد سعر متر البروكار عندنا بألفي ليرة مثلاً ويذهب ليشاهد المصنع آلياً بـ1200 ليرة، سيستشري الأرخص، وهما متشابهان بكل شيء باستثناء أن اليدوي صنعناه بالنول وباليد بينما الآلة هي التي تصنع البروكار، نحن ما زلنا نحس بقيمة القطعة المنتجة على عكس المصنعين آلياً، وأنا أمام هذا الواقع سأحول نولي إلى نول جرار حيث يمكنه أن يعطي إنتاجاً أكبر حتى نستطع منافسة الآلة ولو بشكل محدود».