الآلات الشعبية ذاكرة شعوب.. تكاد تنقرض

منها الربابة والأرغول والسمسمية

الطبل له اشكال واستخدامات مختلفة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

من منا لم يهتز جسده لدقات الطبلة والمزمار البلدي، أو خطفت روحه ندهة ناي أو ربابة شجية.. هذه الحالة الجميلة مرشحة بقوة للاختفاء من حياتنا المليئة بالصخب والضجيج.

في أقاليم مصر وعلى الأخص في الجنوب تتنوع الأفراح والاحتفالات بتنوع الآلات الشعبية المصاحبة لها. فلا تزال الآلة الشعبية هي البطل، ولا يزال المغني الشعبي يؤدي طقسه بامتياز، عازفا على وتر القلوب بحكايات وقصص تمتزج فيها حكمة السنين بميراث الأسلاف والأجداد.

فمنذ البداية ارتبطت الآلات الشعبية بوجود البشر على الأرض، وحاجتهم الى الإيقاع أو الموسيقى، بدءا من التصفيق والتوقيع باستخدام الأيدي والأرجل، ثم الاستعانة بسطح يصلح للدق والتوقيع، وبعد ذلك كان اللعب بنبات الغاب المجوّف وإخراج أصوات منه تجسد سعي الإنسان دائما في أن يجعل موسيقاه البدائية تلك معبرة عن حالاته النفسية المختلفة، وكذلك طقوس حياته، من صيد وتزاوج ومطر وحصاد، وممارسته للسحر للتغلب على الطبيعة الغامضة من حوله.

تطورت الآلات الشعبية بتداولها بين الأفراد في مختلف الشعوب لتكون قريبة من المزاج العام لكل بلد وشعب. وإن كان هناك ثمة مشترك عام بين الشعوب، فمثلا عندما استمع للموسيقى الأرمينية أجد تشابها ما بين الآلات الشعبية هنا وهناك، وإن كان لكل شعب موسيقاه بالطبع.

حزمة من الأسئلة تطل من رأسي وأنا أعيش أجواء هذا الموضوع: لماذا لا يتجه الشباب الآن لتعلم الآلات الشعبية، وكيف نجذبهم إليها، واين يتم تصنيع هذه الآلات.. وهل تدوين اللحن الشعبي صعب، وهل ثمة قواعد خاصة به .. ما الآلات التي كانت عند الفراعنة والعرب وعلاقتها بمثيلاتها الحديثة، وهل هناك آلات اختفت واندثرت، وهل تطوير الآلات الحديثة المشابهة أضاف إليها أم أخذ منها.. ولماذا لا تتكرر تجربة الفنان محمود سرور في تطوير آلة الربابة ؟! ولا يفارق ذهني أغنية مدحت صالح : « غنى المزمار وجال ساعة ما الحلو جال/محلاك يا صبية يام الشوق والدلال/ مال الناي على الربابة / جال أنا مغرم صبابة / والله العشقين غلابة / مابين بعاد ووصال» فكلما أبدأ العمل تلازمني هذه الأغنية الشجية، من بين أغان كثيرة احتفت بالآلة الشعبية أو استعانت بها. منها أغنية وردة بعد انتصارات أكتوبر 1973 «وأنا على الربابة بغني غنوة الحرية .. تعيشي يا مصر». ومحمد منير بأغانيه التي تعتمد كثيرا على الآلات الشعبية النوبية، والكثير من الأغاني القديمة والجديدة مما لا يتسع المجال لذكرها.

فالأغنية الشعبية وكما يقول رشدي صالح رائد الدراسات الشعبية: «كان أهل مصر يستخدمون الأغنية من المهد إلى اللحد في مصر القديمة، وبعض الآلات الموسيقية التي نشاهدها الآن في ريف مصر ومناطق النوبة، وبعض واحات الصحراء تذكرنا بالآلات الموسيقية المرسومة على جدران المعابد الفرعونية» .. ويذكر الباحث أشرف عوض الله في كتابه «دراسة الموسيقى الشعبية بالاسماعيلية» أن آلة «السمسمية» التي ترتكز عليها الموسيقي الشعبية في مدن القناة الساحلية أصلها آلة الطنبورة النوبية، والتي يستخدمها أهل النوبة في احتفالاتهم، وقد جاءوا بها أثناء توافدهم للمشاركة في حفر قناة السويس. وقد ظهرت الطنبورة كآلة موسيقية في الدولة الوسطى الفرعونية. وكما يوضح الدكتور محمد عمران أستاذ الموسيقى والدراسات الشعبية بأكاديمية الفنون فالآلات الفرعونية القديمة ليست هي نفسها المستخدمة الآن، مشيرا إلى أن التشابه في الشكل لا يعني أنها هي، «فالآلة يحدث لها تراكم وتحوير عبر السنين، هناك امتداد فرعوني، بيزنطي، روماني يوناني، عربي ..الخ، وعلى سبيل المثال آلات النفخ عند الفراعنة ليست هي الموجودة الآن، وإن كان المبدأ واحدا». > لكن تصنيع الآلات الشعبية هل يتم في أماكن معينة ؟ يجيب د. عمران: قليل جدا من يصنعها الآن، فالأمر معظمه عائلي، وهناك عائلات مشهورة بصنع آلات معينة، وقد قل الاهتمام حتى في هذه العائلات، فالأبناء أصبحوا لا يتوارثون الصنعة، وبدأوا يتجهون للعمل في أعمال أخرى.

> سألته: هل يعني ذلك أن ثمة آلات في طريقها للانقراض ؟

ـ بكل أسف يحدث هذا بالفعل، فالأرغول مثلا لم يعد هناك أحد ينفخ عليه الآن، فهو يحتاج للجهد والبديل له في آلات أصغر.. نعم هناك قانون الراحة والإحلال، فعندما لا يكون للشيء وظيفة قوية يبدأ في الاندثار. بالأمس القريب كان الراوي ينشد قصة أبوزيد الهلالي على المقاهي وفي الميادين العامة، وكان هناك استخدام قوي للربابة، الآن لا يخلو مقهى من تليفزيون ودش أيضا، ولم يعد أحد يروي السيرة الهلالية. كذلك لم يعد هناك مكان لأغاني العمل الشعبية، بداية من اختفاء النورج والساقية وبيادر الحصاد، وأشكال العمل المختلفة التي يصاحبها الغناء .. فكهذا باختفاء الظاهرة الاجتماعية، ينتهي الحدث الصوت المصاحب لها.

> هل من الصعب تدوين الالحان والأغاني الشعبية ؟

ـ بل هو من أصعب ما يمكن. فقد يكون التدوين غير دال، فاللحن الشعبي غير منتظم، وبه تفاصيل رهيفة جدا خاصة بالآلة، أو بالحنجرة البشرية. وعموما التدوين العادي غير دال، بل هو تدوين تقريبي، لذلك يقف المايسترو لينظم المسألة، والأمر في الموسيقى الشعبية أصعب بكثير، ولم يكن هناك تدوين كوثيقة تاريخية، لكن مع تقنيات الكومبيوتر والتكنولوجيا الحديثة أمكن التدوين بدقة أكثر.

> هذا الكلام وما قبله ينطوي على دلالة خطيرة، فمن الممكن أن تندثر آلات وألحان ، وتختفي ، وليس هناك توثيق لها، وأظن أن هذه المشكلة على المستويين المصري والعربي عموما .. فما الحل برأيك ؟

ـ لقد أنجزنا «أطلس الآلات الشعبية»، وهو الجزء الثاني من أطلس المأثورات الشعبية المصرية، ويصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. وهذا الأطلس يقدم الآلات الشعبية وتوزيعها الجغرافي في مصر، سواء كانت آلات توقيع مثل: الدف والدربكة، والبازة، والطبل والصّاجات بأنواعهما. أيضا آلات النفخ مثل الأرغول ، والمقرونة ، والمزمار بأنواعه ، والوتريات بأنواعها مثل السمسمية، والربابة ، لكن الجمع والمسح الميداني والدراسات الشعبية عموما تحتاج الى كثير من العمل، ومن الباحثين، ونحن بكل أسف لسنا دولا أو مؤسسات ، بل أفراد مؤمنون بمشروع ما، يبذلون له جهدهم، ثم ينتهي بانتهائهم. وأظن أن سلطنة عمان عملت نواة للأرشيف العماني عن الموسيقى الشعبية العمانية، وكان تحت إشراف يوسف شوقي، وكان مطلوبا لهذا الجهد أن يتم ويكمل، وكذلك فعل د. عصام الملاح عن التوثيق والتراث العماني، لكن ليست لدينا مؤسسات تنجز المشاريع حتى النهاية، بل جهد وحماس أفراد فقط. > بماذا تفسر مقولة هيردوت: سمعت أغاني في مصر صارت فيما بعد أغنيات شعبية في بلاد اليونان، ينشدها الناس في كل مكان.. هل يعني ذلك أن ثمة مشتركا إنسانيا وفنيا، يصل إلى حد التشابه بين الموسيقى الشعبية برغم اختلاف الأمكنة ؟

ـ هذا ما يسمى بالدوائر الثقافية، فالدائرة الثقافية الخاصة بالبحر المتوسط تجدين بها تشابها ثقافيا بين دولها، وكذلك الدائرة الثقافية الهندية، الصينية. هذه الدوائر تتداخل في دوائر أكبر خاصة بالبشر كلهم. فهناك تشابه ثقافي بين كل البشر في العالم أجمع، حتى مع وجود اختلافات كثيرة، فالتشابه موجود، وتصغر الدوائر لتنتهي بأفراد الأسرة الواحدة، ومع ذلك نجد اختلافا بين الاخوة برغم المشترك.

يعزز كلام د. عمران ما قرأته على شبكة الإنترنت عن «الزقرة» أو «القربة» كما يسميها الناس وهي آلة قديمة من أصل صيني، حيث هناك آلة صينية تدعى «ال شينج» تعمل بنفس الطريقة. ويقول مؤرخو الحملة الفرنسية في كتاب «وصف مصر» إن «القِرب» أو «الزقرة» تشبه في شكلها آلة النابل التي استخدمها كل من العبرانيين والإغريق والرومان. وقد اخترع تلك الآلة أولا الفينيقيون، ولفظة «نابل» تعني «القِربة» بالعبرانية. وقد وصلت القربة أو النابل الى مصر القديمة عن طريق التبادل التجاري بينها وبين فينيقيا، وهي قاصرة في عزفها على الرجال، ويتم تعليم العزف عليها بشكل عائلي متوارث.

ويجب إلا نغفل ونحن نتكلم عن الآلات الشعبية محمود سرور عازف آلة الكمان الشهير، وتجربته في تطوير آلة الربابة العربية. لكن هل هذه التجربة لصالحها أم ضدها .. يقول سرور: كان لي الشرف في أن أكون أول من طور إحدى الآلات الشعبية القديمة، فبحكم عزفي على آلة الكمان فكرت في العزف على الربابة، لكن وجدتها فقيرة جدا، فجعلتها تعزف 21 نوتة بدلا من 5 فقط . وأنا أرى أن هذا التطوير يقي هذه الآلات القديمة من الاندثار.

في عام 1956 اجتمع علماء الموسيقى والإثنولوجي والفلكلور في جامعة فلوريدا الأميركية، وتقرر أن تكون دراسة الموسيقى الشعبية علما قائما بذاته تحت مسمى «الإثنوميوزيكلوجي» اي موسيقى الأعراف .. وقبل ذلك بقرون عديدة ارتبط عصر الازدهار الاسلامي بازدهار فن الموسيقى واحتفاء علمائه وفلاسفته بها.. حسبنا أن نتذكر الفارابي مخترع آلة القانون، وابن سينا، والموصلي وغيرهم الذين احتفوا بالموسيقي كشرط لنهضة الامم، وقد بلغ هذا الاختفاء مبلغا إلى حد قول أحدهم «لا آمن لمن لا يهتز لرنة عود».

وفي عصرنا الراهن أوصى المؤتمر الثاني للموسيقى العربية الذي انعقد في مستهل الثمانينات من القرن الماضي بمدينة فاس في المغرب الجامعة العربية بأن تنشيء مجمعا علميا للموسيقى العربية .. لكن لا أحد يعرف في أدراج أية ريح ذهبت هذه التوصية، وربما غيرها من التوصيات ؟! أضع القلم لأغفو قليلا، لكن سرعان ما استيقظ على صوت بائع العرقسوس وهو يدندن على دقات صاجاته الأليفة: «شِفا وخميرة يا عرقسوس.. من غير فلوس يا عرقسوس».