النيل ملجأ العائلات.. في ليالي الخميس

الحمص والذرة والتسالي من مستلزمات السهرة

التنزه على نهر النيل يعتبر جزءاً لا يتجزأ من حياة سكان القاهرة («الشرق الاوسط»)
TT

من بين أيام الأسبوع السبعة لا يزال ليوم الخميس حفاوة خاصة لدى المصريين فهو يوم راحة البدن والروح من ضغوط العمل والحياة بالنسبة للكثير من الموظفين المتقدمين في العمر، وهو يوم الترويح والسهر والذهاب إلى السينما وكسر المألوف بالنسبة لقطاعات كثيرة من الشباب.

وتحت مظلة «الخميس» يوم العطلة الأسبوعية يتفنن المصريون في صناعة البهجة، كل حسب وضعه الاجتماعي، ومقدرته المادية، ويشكل النيل بشواطئه وكباريه المترامية في القاهرة وضواحيها المفردة الأساسية في هذه الصناعة ، حتى أصبح بمثابة «شرفة ليلية»، ومنتجع صيفي مفتوح الذراعين على فضاء حر يزخر بعبق الطبيعة والجو الجميل. فعلى شرفة النيل تتوافد المئات من الأسر من البسطاء والفقراء، يمرحون ويتسامرون حتى ساعات متأخرة من الليل، ببضعة جنيهات تكفي لشرب كوب من حمص الشام أو الشاي بالنعناع، أو طبق من الترمس، أو كوز من الذرة المشوي، أو ثمرة بطاطا شهية المذاق.

فكل يوم خميس. ومع غروب الشمس يغادر هؤلاء القاهريون البسطاء بيوتهم الضيقة المتراصة في كتل من الخرسانة الصماء، بخاصة في الأحياء الشعبية: بولاق الدكرور، شبرا، إمبابة، الوراق.. وغيرها، ليحتضنوا ضفتي النيل، وعلى طريقة أجدادهم الفراعنة، يعقدون معه ميثاق صداقة يتجدد كل يوم خميس..وهو ما يعبر عنه أحمد اللبودي ـ إداري بإحدى المدارس الابتدائية بمحافظة الجيزة بقوله «النيل أجمل صديق ولازم نلاقى يوم نخرج فيه من الخنقة والزحمة والحر اللي فى البيوت.. هنعمل ايه لسه خارجين من الامتحانات والدراسة ومصاريفها وداخل علينا رمضان بعد كام يوم.. مصاريف كتيرة.. ولازم شوية هوا نقي ولا نقعد في البيت، نمصمص شفايفنا ونتفرج على التلفزيون».. توقعت أن يطلب منى اللبودي أن انصرف وأتركه هو وعائلته يكملون جلستهم على كوبري عباس على النيل بالجيزة، لكنى فوجئت به يستدعى صاحب عربة حمص الشام ويطلب لى كرسيا وكوبا ساخنا من الحمص، ثم ضحك كما هو معروف عن خفة دم المصريين وقال: «تعودنا منذ سنوات أن نأتي إلى هنا من وقت لآخر خاصة في يوم الخميس، إحنا من العمرانية (منطقة شعبية تجاور ميدان الجيزة) وبتمتد قعدتنا أحيانا حتى وش الفجر فالجو جميل، وبكره أجازة»، وعندما حدثته عن تكلفة تمضية هذه الليلة على النيل قال: لا تتعدى العشرين جنيهاً.

لم أشأ أن أتركه لكني فوجئت ببائع حمص الشام يدخل في الحوار بعد أن ظل مستمعاً لفترة.. «الناس هتعمل ايه؟، حتى لو طلعوا يوم واحد لحد اسكندرية شوف هيصرف كام هو وأطفاله .. مش أقل من 200 أو 300 جنيه ده لو معملش حاجة خالص.. أكيد عياله أولى بيهم».

تركت اللبودي وأسرته ووجدت حمدي ثابت ـ بائع حمص الشام ـ 34 عاما سألته عن الحال يوم الخميس، فأجاب: الحمد لله العربية بتساعد وده الموسم، وبيطلعلي 100 جنيه فى الأيام العادية وكوباية الحمص باتنين جنيه وحسب انت ومزاجك عايز تزود بزودلك، اما يوم الخميس فالربح بيزيد مفيش كلام، بس حسب التساهيل ساعات بعمل 200 جنيه بس فى الأغلب بيعدى 150 جنيها، لأن الزباين ساعات يبقى واحد مع خطيبته وعاوز يجاملها، وساعات إخوة عرب بيركنوا بعربياتهم على الكوبري ويشربوا حمص.. ده غير العائلات».

يقترن يوم الخميس في ذاكرة المصريين، بفكرة الهروب في الاتجاه المعاكس، وكسر نمط الهروب المتكرر من العمل إلى البيت، أو من البيت إلى العمل.. وهلم جرا.. حيث يشعر الكثير من المصريين وبخاصة الشباب بأن نمط الهروب إلى البيت تقليدي، محاط بأسوار من الأعراف الاجتماعية الراكدة، أما الهروب المعاكس، فيزكي روح المغامرة في فضاء حر، بخاصة حين يتم وسط صحبة من الأصدقاء، وفي مكان ينفلت من أسر التقاليد والعادة.

ينعكس ذلك في منطقة وسط البلد، وعلى بعد خطوات من شاطئ النيل حيث التجمع الأكبر لدور السينما، ويلفت نظرك مظهر آخر ليوم الخميس.. زحام وجمهرة غفيرة من الشباب على حجز تذاكر لحفلة منتصف الليل، بعدها يبدأ الانطلاق إلى المقاهي والنوادي ومواصلة السهر حتى مطلع الفجر.. وعلى حد قول أحمد اسعد ـ طالب بتجارة القاهرة ـ «من عادتي وزملائي أن نأتي إلى السينما وقت ما نستطيع لكن الأفلام الجديدة تبدأ فى العرض يوم الأربعاء لكن انسب وقت لمتابعتها هو يوم الخميس»، وعن رأيه في الازدحام قال انه يتحاشاه بدخول الحفلة التي تلي منتصف الليل (السوبر ميدنايت) وهى الحفلة التى تطبقها سينمات وسط البلد للأفلام ذات الجماهيرية، ويفضل أحمد مشاهدة افلام الكوميدية فى سينمات وسط البلد مثل مترو، وكوزموس، أوديون، لانخفاض سعر التذكرة وللجو العام في هذه المنطقة حيث يمكنه انتظار الحفلة تلو الأخرى في اي مقهى من المقاهي المنتشرة في وسط البلد أو التجول بين شوارعها.

وكما للنيل طعم خاص في التفريج عن المصريين البسطاء فان لجبل المقطم (تل يحيط بالقاهرة) طعم خاص آخر من دون كل أماكن القاهرة، فارتفاعه وبعده عن الصخب والضجيج يمنحك فرصة مشاهدة القاهرة من أعلى، والبعض يشبهه بالغادة الحسناء لما يتمتع به من منظر خلاب، خاصة بالليل، كما يوجد بالمقطم نفس الخدمات التي ستجدها على النيل من باعة الشاي والمياه الغازية والذرة والترمس.. لكن لماذا يفضل بعض الشباب بل العائلات الذهاب إلى المقطم رغم أنه يتميز بالبعد عن اى منطقة من القاهرة، ويستلزم وجود سيارة للصعود إليه .. «إنه مكان مفتوح ولطيف أشعر فيه بالحرية» هكذا أكد لي أحد الشباب ـ والذين يكتظ العشرات منهم بعرباتهم فوق هضبة المقطم ـ مضيفا «إحساسي بالحرية لا يعادله إحساس آخر، بالإضافة للمنظر الطبيعي وإحساسك أن القاهرة كلها تحت قدميك وأنت ملكها الوحيد».