البحث عن الزمن في سوق الساعاتية ببغداد

محلات تصليح الساعات في طريقها للانقراض

قمر الأعرجي منهمكا بتصليح ساعة قديمة («الشرق الاوسط»)
TT

كان سوق الساعاتية، مثلما يدل اسمه، مزدحما بمحلات بيع الساعات وتصليحها، وكان ايضا مزدهرا بالاعلانات الملونة عن ماركات الساعات الثمينة والقوية في آن واحد، مثل (أولما) و(فيلكا) و(جوفيال)، في وقت لم يكن فيه العالم قد عرف تلك الساعات الخفيفة التي تعمل بقوة البطارية. السوق يقع قبالة مقهى الخفافين، وهو امتداد لعمارة المدرسة المستنصرية، وتاريخه يعود الى العصر العباسي المتأخر، طابوق جدرانه ما يزال يحمل لون ورائحة رطوبة الزمن المتراكم منذ مئات السنين، فالزمن هنا يمضي بدقة، وبحساب عقارب المئات من الساعات اليدوية والجدارية والمنضدية القابعة في محلات الساعاتية. كان الزبون يذهب ربما مرة أو مرتين في العام الى محال ساعاتي محدد لتنظيف ساعته وصيانتها، إذا ما قدمت أو أخرت دقيقة.

من أقدم المحال في السوق محل (ابو جعفر)، الذي يزدحم بالساعات الكبيرة ذات الاطر الذهبية والفضية اللماعة المحاطة بخشب الصاج البني الغامق، بينما يتحرك البندول بدلال الى اليمين واليسار، راصدا مرور الثواني والدقائق والساعات بحرص حارس أمين لا يسمح للوقت بالانفلات من تاريخ الحياة.

ما يثير إعجاب الزائر للمحل، ان جميع عقارب الساعات الجدارية الكبيرة والمنضدية ذات الجرس المنبه، وحتى الساعات اليدوية الموضوعة خلف زجاج منصة العرض، كلها تشير الى ذات الوقت، ليس هناك تفاوت في موقع هذا العقرب او ذاك، وكان كل عقارب هذه الساعات منضبطة كجوق عسكري وبأوامر قائد واحد، هو الزمن.

ولا يعرف ان كان موقع سوق الساعاتية بالقرب من المدرسة المستنصرية متعمدا أم مجرد مصادفة، ففي هذه المدرسة كانت تقوم، وقبل ما يقرب من ألف عام اول ساعة مائية في العالم، وما يزال مخططها موجودا حتى اليوم، والساعة المائية التي حيرت العلماء المعاصرين عندما ارادوا اعادة الحياة لها فلم يتمكنوا، هي عبارة عن طائرين متقابلين يحركان رأسيهما كأنهما يلتقطان حبات القمح، وهذه الحركة كانت تتم كل دقيقة، وكل ساعة يبيض احد الطائرين، وخلال اليوم تكون هناك 24 بيضة.

هذه الساعة كانت تعمل بقوة الماء بطريقة لم تكتشف حتى هذا اليوم، والى جانبها كانت هناك الساعة الرملية، والاسطرلاب.

اليوم انحسرت محلات بيع وتصليح الساعات في سوق الساعاتية، بل تكاد تختفي، باستثناء وجود ثلاثة محلات، ففي السنوات الماضية غادر السوق تجار الساعات واسطوات تصليحها وضبطها «ضبط العقال على الرأس»، مثلما كانوا يرددون بفخر.

كان هناك قمر محسن الاعرجي، قال «انا اعمل في هذا السوق منذ اكثر من خمسين عاما»، موضحا بقوله «لا ادري متى تم افتتاح هذا السوق، لكنني اتذكر ان والدي وقبله جدي كانا يعملان في تجارة الساعات وتصليحها في هذا المحل».

ينظر الاعرجي الى السوق، الذي اصبح شبه خال من محلات الساعات، حيث تسرح ذاكرته بعيدا الى ايام مجد سوق الساعاتية، ويقول «كان من الصعب المرور من خلال هذا السوق بسرعة بسبب الزحام، وكانت هذه المحلات عامرة بأنواع الساعات الجديدة والمستعملة، وكان تصليح الساعات مهنة مزدهرة، اذ كنا نستقبل كل يوم عشرات الساعات، اما لتنظيفها او لتغيير بعض اجزائها، مثل النابض او غير ذلك من اجزاء الساعة».

حول الاعرجي بقايا ساعات قديمة، واعلانات عن ساعات «ايام زمان» على حد قوله، تلك الساعات، التي ذهب مجدها، فالساعات السويسرية القديمة كانت تدوم لاكثر من عشرين او ثلاثين سنة، لا تحتاج سوى تنظيف وعناية، اما ساعات هذه الايام التي تعمل على البطاريات فانها مثل فقاعة، ساعة خفيفة لا تشعر حتى بها عندما تضعها حول معصمك، وعندما تتعطل فيجب ان ترميها لتشتري غيرها، ساعات استهلاكية تناسب هذا الزمن. يعاود الاعرجي تثبيت العدسة المكبرة الخاصة بمصلحي الساعات قرب عينه اليمنى، ويبحر بين اجزاء ساعة قديمة من بقايا الزمن الماضي، يكافح كي يجعلها تساير زمنا آخر غير زمنها، لكنه يؤكد قائلا «ساعات أيام زمان هي الاصل وهي من تحسب الوقت بدقة».

ليس بعيدا عن محل الاعرجي، يقع محل عبد الجبار الساعاتي، ابو مصطفى، هكذا قدم لنا نفسه، يعمل في هذا المحل منذ عام 1950. يقول عبد الجبار «كنت ارافق والدي في طفولتي وأراقبه بدقة كي أرث هذه المهنة، لم يكن يسمح لي في البداية بأن أمس اية ساعة لزبون فهذه مسؤولية كبيرة، ويجب ان يحتفظ بثقة زبائنه، وإلا فإنه سيخسر المهنة، لهذا انا تعلمت بساعات غير صالحة للعمل».

الساعاتي خريج كلية الادارة والاقتصاد، لكنه فضل الاستمرار بمهنة والده وجده، على الرغم من ان مردودها المالي بسيط «فالناس صارت تفضل شراء الساعات الرخيصة التي تعمل على البطارية، وتركت الساعات الفخمة التي تدوم العمر كله، كنا نستورد ساعات اولما وفيلكا ونضمن للزبون صلاحيتها وصيانتها لسنة وسنتين».

ويشرح الساعاتي اسلوب بيع الساعات قبل خمسة عقود او اكثر، فيقول: «كان هناك وكيل كبير لاستيراد نوع محدد من الساعات، ونحن نأخذ من هذا الوكيل وبسعر الجملة ما نحتاجه، فمثلا كان اشهر وكيل لساعات الاولما هو ناجي جواد الساعاتي، كان تاجرا ممتازا وابن عائلة معروفة، كما كان مشهورا بكتابة ادب الرحلات، حيث كان يسافر باستمرار، وكان متعاونا معنا يصبر على تسديد امواله ويستقبلنا بأريحية وينصحنا بشراء الموديلات المفضلة من الساعات، وغالبا ما كان يزور جنيف، حيث يستورد ساعات اولما من منشئها الاصلي بنفسه».

ويمضي الساعاتي قائلا: «كان لكل تاجر او صاحب محل زبائنه الذين يشترون منه ساعاتهم وساعات عوائلهم، وتلك التي يقدمونها هدايا في المناسبات الخاصة، وكان الزبون يراجع هذا المحل لصيانة ساعته وتنظيفها، فالساعة وقتذاك لم تكن رخيصة، بل غالية الثمن وثقيلة، والزبون يشتريها لتبقى لا ليرميها او يغيرها مع ظهور موديل جديد».