محمود درويش.. قلب محمل بالقوافي وآلام الوطن

اختاره «عرفات» مستشارا له لسنوات.. وأعماله ترجمت إلى 22 لغة

درويش يصلي على ضحايا صبرا وشاتيلا وإلى جانبه مارسيل خليفة وإلياس خوري (أ.ف.ب)
TT

بين قرية البروة بالقرب من عكا في فلسطين ما قبل النكبة بستة أعوام، حيث بدأ قلبه الرقيق ينبض بالحياة، وبين يوم أمس، حين توقف هذا القلب المحمل بالأنغام والقوافي والآلام، عن الخفقان داخل غرفة بمستشفى بولاية تكساس، عاش الشاعر الفلسطيني محمود درويش حياة تُعدُّ بعدد قصائده التي تُرجم عدد كبير منها للغات مختلفة. وبينما كان أطباء مستشفى «ميموريال هيرمان» يحاولون إغراء نبضاته على الهمس من جديد، كان جسده الممدد والبالغ من العمر 67 عاما، غائب عن الوعي.. ومن بين ضباب البنج وبياض الغيبوبة، يسمع طلقات رصاص.. لا.. «أصدقائي.. لا تموتوا». هنا عام 1981 حيث مؤتمر أدبي في العاصمة الإيطالية.. هنا تصل نيران العدو.. هنا اغتيل صديقه ماجد أبو شرار. طاخ؛ انفجار قنبلة تحت السرير، قال طبيب فلنحاول مرة أخرى لأنه يبدو أنه، درويش، مهم حتى لغير العرب أيضاً.. يتذكر صوت الكاتب الإسباني خوان غويتسولو حين قال عنه إنه أحد أفضل الشعراء العرب في القرن الحالي وأن تاريخه الشخصي يرمز إلى تاريخ قومه. يتذكر درويش قول الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات: نحن نريدك أن تكون وزيراً للثقافة في حكومة الدولة الفلسطينية بالمنفى. قال «درويش لا».. لا أريد غير الرجوع لوطني المحرر لأكتب على جدرانه الشعر لأعزف على ريحه النغم. يرى وجهه بين وجوه الرفاق في العاصمة تونس، يقول: لا لاتفاقية أوسلو سنة 1993، مقدما استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني.

يتمتم قلب درويش محاولا الاستمرار، مستعيناً، وهو وحده على فراش أبيض في غرفة عمليات بيضاء، بأبيات من قصيدته الأشهر «سجِّل أنا عربي».. يتمتم بمقطوعات من قصيدة «وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر» وبنغمات من موسيقى كلماته الشعرية «لا تعتذر عما فعلت». وقبل نحو أسبوعين، يتذكر، كيف استقبل الجمهور الفلسطيني عودته، في مهرجان «وين ع رام الله»، بعد غياب استمر نحو ثلاث سنوات.. ويتذكر، مفعماً بعطايا أهله ومحبيه، طابعا بريديا يحمل صورته تكريما له الشهر الماضي.. يتذكر اللحظة الأولى التي قررت فيها بلدية رام الله إطلاق اسمه، قبل ثلاثة أشهر، على أحد أهم ميادينها.. هل تبسم قلبه في وحدته ولحظاته الأخيرة، وهو يرد عليهم مازحاً: «ليس من الضروري أن أكون في هذا الحفل لأن الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن اسمعه فيما بعد».

يرى ابن البروة نفسه في السادسة من عمره، يستيقظ مذعوراً فمهرولا تتعقبه «عصابات الهاجاناة»، فيما انفجارات تدوي وألسنة لهب ترتفع، عشرات المرات عبر عشرات السنين، وجثث تسقط بلا حساب.. وفي لبنان بدأ ينظر وراءه ليرى على البعد من يتربص للحاق به يريد إزاحته وإزاحة خرائطه الملونة عن الحياة. قال: «بيروت.. لا..»، ودوت قنابل طائرات، ودوت مدفعية ثقيلة، وجرى خلف المقاتلين ليرى تفاصل التصدي للعدو بالدم واللحم، حيث لا مفر، لكنه في نهاية المطاف يجد نفسه يلوح مودعاً رفاقه المُبعدين، بأسلحتهم، عن بيروت. يتذكر درويش وهو ممسكاً بيديه، وعمره لم يتجاوز السابعة عشرة ربيعاً، أسلاك الحدود الشائكة جنوب لبنان، كان معه عمٌّ له، ورجل آخر يدلهما إلى فلسطينه برائحتها المعبقة برأسه، إذ قال له عمه ذلكم المساء: الليلة نعود.. وعبر إلى الأفق متحدياً الجبال والوديان، لكن قرية «البروة» كانت خلاء قد هُدمت وحرقت. ولم يتمكن من فراق رائحة وطنه، لعلَّ الأيام تعيد ما كان، فأقام مع أسرته في الجليل، وبمرور الوقت صار محررا ومترجما في صحيفة «راكاح»، الصادرة عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، عاقداً العزم على مقاومة الممارسات الإرهابية الصهيونية، بطريقته؛ الكتابة منذ وقت مبكر من العمر، ما أسهم في إنضاج آلامه في هيئة قصائد تشبه أنين الموسيقى، وعزف الوجع، ليلتف حول قصائد «شاعر المقاومة» هذا كل عربي مكلوم الفؤاد، ما عرَّضه لتحديد إقامته بالحي الذي يسكنه، وللاعتقال المتكرر من جانب السلطات الإسرائيلية في ستينيات القرن الماضي، وما بين النكبة الثانية، وهي نكسة 1976، والنكبة الثالثة، وهي الحرب الأهلية في لبنان على 1982، كان ألم عربي لا شفاء منه قد تمكَّن من «درويش»، وحوَّله إلى عازف على قيثارة اللغة، يتلقف دواوينه، ومجلته الأدبية «الكرمل»، العرب المقيمون في بلادهم وفي بلاد الأقرباء والغرباء.

يتذكر درويش جسده الذي لا يريد أن يطاوعه وهو مدد في غرفة بيضاء بلون الحليب حين كان يرمم قلبه في عام 1984.. يتذكر كيف أفاق بعدها لحضن الأحباب، ليدخل مرة أخرى، في عام 1998 لذات الغرفة البيضاء، لهدهدة هذا القلب للاستمرار في الحياة.. وطاوعه واحتفل به أصحابه وأقرباؤه ومحبوه، لكن هذه المرة، أي يوم الأربعاء، حيث خضع لعملية قلب مفتوح تضمنت إصلاح ما يقارب من 26 سنتيمترا من الشريان الأورطي، بدأت الأضواء تخفت، والعالم يغيب رويداً رويداً عن الشعر وعن النغم وعن الغناء.

ورغم عدم انتمائه لأية جماعة أو حزب سياسي، اختاره «عرفات» مستشارا له لسنوات، إلا إنه بعد ذلك وصف اتفاق أوسلو الذي وقَّعه «عرفات» بأنه «ليس عادلا»، لكنه عاد بعد ذلك بسنة، أي في منتصف التسعينيات، ليعاني، مع ملايين الفلسطينيين، وجع الاحتلال في رام الله، ويعرض بيته وقصائده وأوراقه لمداهمات القوة الإسرائيلية الغاشمة. وإذ يتذكر درويش هذه الوحشة يتذكر أيضاً أعماله التي ترجمت إلى ما يقرب من 22 لغة.. يتذكر حصوله على العديد من الجوائز العالمية.. يتذكر وجهه حين انفرجت أساريره، قبل ستة أعوام، مبتهجاً بزيارة أدباء عالميين كبار لبيته المحاصر برام الله، وكان منهم «وول سوينكا» و«خوسيه ساراماغو» و«فينثنثو كونسولو»، وغيرهم.