موسم أصيلة الثقافي يجمع 6 فنانين مغاربة يعيشون تحت سماوات أخرى

يشتركون في الألوان ليعيدوا ابتكار الذاكرة التي تغذي إبداعهم التشكيلي

محمد بن عيسى امين عام مؤسسة منتدى اصيلة ، يتوسط ميغيل انخل موراتينوس، وزير خارجية اسبانيا، ومحمد سعد العلمي، وزير العلاقات مع البرلمان المغربي خلال زيارتهم للمعرض(«الشرق الاوسط»)
TT

كيف يعيش ويشتغل الفنان التشكيلي المغربي خارج بلده؟ وهل يكون لـ«الغربة» نفس المعنى الذي يخنق، عادة، كل مهاجر يشتغل خارج حدود الفن والألوان؟ وكيف ينعكس العيش والاشتغال على أصالة الفنان الإبداعية وهو تحت سماوات أخرى؟ وكيف تختلف وتلتقي أعماله عن أعمال من يقاسمونه نفس «الغربة»؟

لعلها نفس الأسئلة التي تتبادر إلى ذهن من يتجول بين اللوحات المعروضة حاليا بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية بأصيلة، في إطار الدورة الثلاثين لفعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي، والذي يضم أعمال ستة فنانين تشكيليين مغاربة، منهم من يعيش في إسبانيا و ألمانيا وفرنسا والمكسيك، لكنهم يشتركون في ألوان الفن ويعيشون تحت سماوات تختلف عن سماء المغرب.

ويرى الباحث والناقد المغربي فريد الزاهي، في تقديمه للمعرض، أن الفنان «كائن يعيش الغربة باستمرار»، وأنه «يمتح هويته من موطن متعدد»؛ الشيء الذي يعني أنه «في ترحال دائم، لا يتخذ لنفسه وجهة معينة، ولا يعيش في العالم إلا باعتباره في الجوهر شاعراً». يصبح الترحال والتيه، بهذا المعنى، «نمط عيش الفنان الحق»، باعتبار أنه «يستكشف دوماً موطنه الخاص ويتغرب عنه في الآن نفسه»، و»يتملك موطن الآخر ويتماهى معه في الوقت ذاته»، الشيء الذي يجعلنا بصدد «حركة مزدوجة تعبر عن الماهية المشاكسة لكل هوية متيقظة لتبخر أوهامها». كل هذا يعني أن «الفنان المغربي المستوطن بلاداً أجنبية ليس أجنبياً بالمعنى الضيق للكلمة»، وأنه «يندرج بشكل مضاعف في حضور الغيرية»، و«يظل متيقظاً لخصوبة ذاكرته المحمولة التي لا يني يمتح منها عمليات الإبلاغ والوساطة التي تسكن جسده»، حيث «يظل الاشتغال المزدوج الذي يمارسه في العمل والممارسة الفنية حاضراً باستمرار، هنا وهناك، في لعبة مرايا ملائمة للإبداع والتفكير».

تعيـشُ مونيا الطويس الطراف، وتعمل تحت سماء برشلونة، وتبدو أعمالها وكأنها تحملنا نحو أحلام يقظة تشكل فيها العلامات استكشافاً للذاكرة. إنها ذاتٌ متحركة، مهووسة بالانفتاحات، دائمة البحث عما يتجاوز الماثل أمام النظر، حيث الخطوط هوائية والتخوم غير محددة، بحيث تترجم شاعرية مخملية متعلقة بأسئلة غائرة في العمق، تصير معها اللمسة هشة واللوينات مائية، كما لو أنها تكاد تنمحي أمام الناظر. بيد أن الفضاء يكشف عن نفسه من خلال الأشياء المتحولة إلى علامات كما لو كان يشير إلى عشق دفين لفضاء رمزي، قد يكون ذلك الذي وسم الجسد ومتخيله الخاص. ومع لوحات عزيزة العلوي، التي تعيش وتشتغل تحت سماء المكسيك، يكون المشهد الطبيعي، دوماً، خدعة للبصر واستبطاناً للوجود الحاضر للطبيعة، الشيء الذي يجعلها تغير دائماً من موقع نظرها كي تمسك الدفق الآسر للطبيعي، وتقتفي حركته كما لو أنها تريد بذلك أن تدمجه في اللحظة، التي تغدو شبه أبدية. ومن خلال المساحات اللونية وتعبيريتها والألوان ونبراتها والتلاوين وحساسيتها تتشكل التركيبة الفنية للوحة، ويحلق البصر في سماء المشهد كما لو كان كاميرا متحركة، متلاعباً بالزمن المحايث للموضوع، موحداً بين العناصر في اللحظة نفسها التي تمسك بها العين. إنها مشاهد طبيعية دائمة الحركية، في حالة تغرب مستمر، منذورة للمحو كي تستعيد طابعها التجريدي.

ويعتمد خالد البكاي، الذي يعيش ويعمل في برشلونة، على الكولاج لتشذير العناصر وتنضيدها وتدثيرها وطمرها. وهو كولاج يتحول إلى لعبة يكرس لها نفسه بمتعة تلوينية وتزويقية لا حدود لها، حيث الأشياء والعلامات والمساحات تتناظم بشكل يتولد معه الإيقاع والتباين اللوني والتقاسم والتأليف التشكيلي المفكر فيه.

يسلب البكاي أشياء اليومي من دلالتها المتحجرة ليعيد تشخيصها في الجدة التي ينفخها فيها والروعة التي يمنحها لها. إنه، هنا، أشبه بساحر يخرج من ملونته الأشكال والألوان التي لا يمكن إلا أن تزرع فينا الدهشة، فيما يقوم الحسين الميموني، الذي يعيش ويشتغل في مونبولييه بفرنسا، بإعادة تركيب مكونات عمله التشكيلي، مجدداً بذلك على الدوام مصادر إلهامه، لكن من غير أن يترك جانباً مواده المفضلة، فالتراب والمواد الطبيعية التي يستقيها من مسقط رأسه، تتحول إلى موقف جمالي، مادام أن ما يهم، هنا، هو البوح وحكي نبض الأرض وكتابة وتسطير الزمن وهبـّة الريح الرملية، لتتنفس اللوحة خفة لها قوة لا تضاهى. يتعلق الأمر، مع الميموني، بخدشات لها طعم السيرة الذاتية، التي تنحت صخرة الزمن ورمل الذاكرة بكتابة هوائية تنقش في سطح اللوحة مطلع كلمة رنانة وحية. وللفضاء في لوحات دنيا واعليت، التي تعيش وتشتغل بين برلين وميونيخ، حضور شامخ ومتعدد، تحتله في أبعاده كلها لإخصاب وجوهه المختلفة وتأثيثه بأشكالها، وهي أشكال تتمشهد من خلال المواد الأكثر غرابة عن التشكيل، كما لو أنها ترغب في تحويلها إلى منحوتات تشكيلية ملائمة لرغباتها، حيث تـُغـَـرّب واعليت المادة وتخرجها من وظيفتها وتحررها من دلالتها، لنكون بصدد مغامرة تشكيلية متيقظة لمساربها الداخلية، محمولة دوماً نحو أمكنة جديدة للإبداع والمعنى، الشيء الذي يجعلنا بصدد تعددية العمل الذي تنذر له الفنانة نفسها، والذي يمنحها حرية تمسك بها كحركية دائمة، وكسؤال وإعادة ابتكار للعالم.

وتتحول اللوحة مع سعيد المساري، الذي يعيش ويعمل في مدريد، إلى مرآة منذورة للتأملات، التي تجعلنا نكتشف نسيج القماشة والمنحى العنيف للمسة، عبر تعبيرية مشرعة ونوافذ مفتوحة على الذات والعالم، الشيء الذي يجعل هذه الأعمال متحررة من مهمة الدلالة، كي تنصاع للتحليق الغنائي وسيولة المادة، يبدو معه كما لو أنه يدعونا لأن نقرأ في ما بين الخطوط ولعاً كبيراً بالمكبوت والصامت واللا مفكر فيه.

إنها ست تجارب لستة فنانين، وهي، كما يقول الزاهي، «أعمال وافدة من آفاق وتجارب ومشارب من الاختلاف والتنوع بحيث لا يمكنها إلا أن توقـِع في أزمة كل محاولة لتأملها في الفضاء نفسه أو وضعها تحت يافطة موضوعية واحدة. ومع ذلك، ثمة تآلفات وتجانسات نستشفها وتقاربات نعينها بين الفنانين العارضين. فمنذ البدء نجد أنفسنا أمام عمل يشتغل على الذاكرة البصرية».

والمثير أننا، بعد أن نكون قد أنهينا جولتنا، وقبل أن نترك قاعة العرض، نستدير راغبين في أن نلقي نظرة شاملة على مجمل الأعمال، وفي تلك اللحظة بالذات، يقول الزاهي، «يدخل المتفرج في ما يـُسمى بالحكم الجمالي، ويتشرب بالقوة الناضجة للأعمال المعروضة»، لينتهي إلى أن فنانينا المقيمين بالخارج، كلٌّ بوسائله ووسائطه وحساسيته الخاصة، يعيدون ابتكار الذاكرة التي تغذي إبداعهم التشكيلي، «بل، هم أنفسهم، تعيد تلك الذاكرة تشكيل وعيهم البصري، وفي ذلك، بالضبط، تكمن أصالتهم الإبداعية ويتبدى اختلافهم الفني».