متحف «معبد السلام» في روما مهدّد بالهدم بعد سنتين من افتتاحه

وصفه البعض بأنه يشبه محطة بنزين داخل مطعم للبيتزا

متحف «معبد السلام» أثار الانتقادات بسبب اسلوب العمارة الحديثة التي تتناقض مع العمارة الكلاسيكية في وسط روما (رويترز)
TT

حين افتتح مبنى «متحف معبد السلام» Ara Pacis الروماني الذي يضم قبر الإمبراطور أغسطس في روما، قبل سنتين، كان مصمّمه المهندس المعماري الأميركي المشهور ريتشارد ماير في مقدم الحضور. وكان ذلك الافتتاح احتفاءً مبهراً بدخول العاصمة الإيطالية عصر الحداثة على صعيد المتاحف العالمية، ببناء عصري متطوّر طوّع فيه بحرفية وتقنيات الزجاج والمعدن وتزاوج فيه بانسجام كلي اللون الأبيض والحجر الجيري. غير أن الأمر انقلب إلى حملة شعواء شنّها النّقاد المحافظون والمنتمون الى قوى اليمين الفاشي وحزب رئيس الوزراء الحالي سيلفيو برلسكوني، محتجّين على الأسلوب المعاصر للهندسة المعمارية الذي أبدعه فنان غير ايطالي، الذي وصفه عدد كبير من التيار اليميني منهم الناقد الفني فيتوريو سغاربي بأنه «يشبه ... محطة بنزين داخل مطعم للبيتزا» (!!. واحتدمت المعركة الكلامية حتى انتخاب عمدة (محافظ) المدينة اليميني جياني أليمانو، في أبريل (نيسان) الماضي، علماً بأن أليمانو لم يكتف بالتهديد صراحةً بهدم البناء، بل وعد بذلك عندما تسلم منصبه بحجة أنه «لا ينسجم مع محيطه» الأثري.

ومع أن أليمانو هدّأ من ثائرته لاحقاً، معتبراً أن هدم المتحف ليس على رأس قائمة أولوياته في الوقت الراهن، لم تنته حملة المحافظين الذين نسوا ـ أو تناسوا ـ أن تكاليف المتحف، الذي ينافس أعمال ماير في لوس انجليس وبرشلونة وفرانكفورت، بلغت 25 مليون دولار خلال عشر سنوات من البناء والتشييد والتعديل والتأخير. كما نسوا المعرض الناجح الذي استضافه المتحف في العام الماضي للأزياء الايطالية التي صمّمها فالنتينو على امتداد حياته المهنية حيث جرى وداعه في حفلة رائعة.

فقد عادت الأمور الى التوتر خلال الشهر المنصرم حين لمّح وكيل وزارة الثقافة فرانشيسكو ماريا جيرو، الى ضرورة إجراء تعديلات على البناء وهدم قسم من الحائط الشرقي لكي تبرز معالم الكنائس القريبة. وأضاف جيرو قائلا ... «البناء الحديث بشع، إنه إهانة لأبناء روما ولا يتماشى مع الطابع الفني القديم للآثار في المدينة، ولو عاد الأمر لي لهدمته بالكامل، لكن نظرا لأنه ليس لدي المال اللازم لا استطيع هدمه».

هذا الكلام رد عليه المهندس المعماري الايطالي فرانشيسكو كوباري، مثنياً على البناء ومعتبراً أن فكرة مزج الحداثة بالكلاسيكية تشبه جسارة عازف البيانو الصيني الشاب لانغ لانغ الذي افتتح ألعاب بكين الاولمبية بعزف الموسيقى الكلاسيكية بينما «البلو جينز» زيه المفضل في الحفلات الرسمية، وهو زي كان يعتبر محرماً على عازفي الموسيقى الجدية من أيام القرن التاسع عشر. كذلك قال كوباري «إذا بقيت روما كما هي عليه فستتحول إلى مجرد مقبرة جميلة، ياتيها اليابانيون للتسوق، ويسكر في وسطها السياح الأميركيون .. لكنها حتماً لن تكون مدينة حديثة». وأيد بقوة توجه عمدتي روما اليساريين السابقين فرانشيسكو روتيللي ووالتر فيلتروني ـ زعيم المعارضة حالياً ـ حول مزج الحديث مع القديم واستقدام ألمع الخبرات المعمارية الأجنبية والفنية الشهيرة عالمياً الى روما، من مستوى ماير والمهندسة المعمارية العراقية البريطانية زها حديد التي تعمل حالياً على تحويل ثكنة عسكرية قديمة الى متحف للفن الحديث. وفي حين يعتبر النقّاد اليمينيون من المستحيلات، وبالتالي المحظورات، إدخال العمارة الحديثة الجريئة وموادها العصرية الى مدينة يعود تاريخها الى أكثر من ألفي سنة، وبالذات، الى المَعلَم الأثري الذي شيده الإمبراطور أغسطس عام 13 قبل الميلاد تحية للسلام بعد انتصاراته في بلاد الغال (فرنسا) وإسبانيا، يشير المؤرخون إلى أن زعيم الفاشية المؤسس بنيتو موسوليني نفسه طلب أثناء الحكم الفاشي عام 1930 من المصمم فيتوريو موربورغو إحاطة قبر أغسطس بغطاء زجاجي لتأكيد صلة الفاشيست بالإمبراطورية الرومانية قبل الميلاد.

في هذه الأثناء، بينما تستعر المعركة السياسية بين أخذ ورد، يتمتع السيّاح في روما منذ شهر ولغاية منتصف سبتمبر (ايلول) بمعرض خاص في «متحف معبد السلام» يقدم أعمال أحد كبار المهندسين المعماريين ومصمّمي المفروشات في القرن العشرين هو الفرنسي جان بروفيه (1901 – 1984) الذي يوصف بأنه «شاعر الآثار الفنية والمبتكرات التقنية» ومن ابتكاراته الأشهر تصميم الكرسي الحديث والأضواء والطاولات والأسرة وحتى محطات للبنزين. كذلك، وبمناسبة الكلام عن «عصرنة» المتحف المثير للجدل الحالي، تجدر الإشارة إلى أن بروفيه يعد من رواد فكرة الجمال في الهندسة الحديثة التي تستخدم الفولاذ والزجاج في الأبنية، خاصةً أنه درس في كلية الهندسة بمدينة نانسي الفرنسية وتخصّص باستعمال المعادن وتعاون مع المعماري والمصمم الشهير لو كوربوزييه، الفرنسي الجنسية السويسري الأصل، في بناء المدينة الجامعية بباريس عام 1952. ومن أقوال بروفيه المأثورة «لا فائدة من تصميم شيء لا يمكن صنعه». فهل يشفع هذا المعرض الفريد للمتحف فيحول دون هدم البناء الذي جلب نسمة من نسائم العصرنة والحداثة إلى قلب روما؟ من يشاهد معروضات بروفيه في هذا الصيف الحار في روما الذي يسمح للسياح بالدخول دون انتظار يتأكد أن الإبداع يتطور مع الزمان ولا يمكن أن يقبل بأن تظل روما «عاصمة للرومان» فحسب ... بل لا بد لها من مواكبة التيار العالمي بعد توأمتها منذ سنوات مع مدينة باريس.

وثمة من يسأل اليوم وسط ضجيج الاستقطاب الثقافي بين اليمين المحافظ واليسار التغييري ألم يطوّر المبدعون الايطاليون في عصر النهضة قبل خمسمائة سنة كمايكل أنجلو نماذج الفن والبناء ذات الطابع الكلاسيكي؟ وهل سيمنع الجدل السياسي العقيم زها حديد من إكمال عملها المعاصر المنساب كعالم الفضاء لتعطي روما أخيراً متحفاً راقياً للفن الحديث بعدما اكتفت «المدينة الخالدة» لعشرات السنين بالكلاسيكية القديمة والكولوسيوم وبقية آثار الرومان؟